يتذكر أبناء الوطن العربي الأم في عيدها العالمي اليوم فقط من خلال قصة إمرأة أمريكية تدعى “آنا جرافيس” التي قررت يوما الإحتفال بذكرى وفاة والدتها فجمعت شمل الأهل و الأقارب و الجيران لمشاركتها هذه المناسبة، و من هذا المنطلق يراودنا سؤال مثير للفضول: أين مكانة الأم في ذاكرة المسلمين من القرآن و السنة؟
الإجابة كافية شافية لأن الإسلام رفع مكانة الأم تلك المرأة التي ترمز للعطاء و الدفء و الحنان قبل أن يصبح ذلك اليوم عيدا رسميا في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1914 و قبل توقيع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون على نص قرار بالإحتفال به كعيد وطني.
يرجع المصدر الأول للقرآن الكريم ثم السيرة النبوية الشريفة، وهذا ما يذكرنا بكتاب “نساء خالدات في القرآن و السنة” للكاتب الإسلامي المصري سيد مبارك حيث يبدأ في مقدمة المؤلف بإشارة هامة إلى أنه أستند في كتابه على تفسير ابن كثير و صاحب ظلال القرآن سيد قطب رحمهما الله.
ينقسم هذا الكتاب الى فصلين: أولهما يقف وقفة إجلال أمام قصص نساء خلدهن القرآن الكريم أمثال آسيا زوج فرعون، مريم العذراء، السيدة سارة،… و ثانيهما يسرد قصصا لنساء مثاليات تخرجن من مدرسة النبوة كالسيدة خديجة بنت خويلد، عائشة بنت أبي بكر الصديق، زينب بنت جحش، الخ.
إن الكاتب الإسلامي سيد مبارك قدم نماذج نسائية كرمها القرآن الكريم في فصله الأول بإمتياز و نذكر في هذا المقام مثالا عن السيدة آسيا زوج فرعون الأم، و جدير بالذكر أن الأمومة لا تكون فقط من الجانب البيولوجي بل من جانب آخر ركز عليه كتاب الله سبحانه و تعالى أيضا في قوله: “وقالت امرأة فرعون قرة عين لي و لك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و هم لا يشعرون(9)” (القصص)، و حسبما ذكره ابن كثير أن عين السيدة آسيا منذ وقعت على سيدنا
موسى عليه السلام أحبته حبا شديدا وهذه هي الرحمة الإلاهية و حينما جاء فرعون أمر بذبحه فإستوهبته منه فقال لها: أما لك فنعم و أما لي فلا، لأنه كان خائفا من تحقق نبوة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام بميلاد غلام من بني إسرائيل يكون على يديه نهاية الطاغية فرعون و قدرة القادر فوق الجميع لقوله تعالى: “و أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض و مغاربها التي باركنا فيها و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا و دمرنا ما كان يصنع فرعون و قومه و ما كانوا يعرشون(137)” (الأعراف). و كان في هذه القصة نصيب للأم البيولوجية هي الأخرى في النص القرآني حيث يقول الله تعالى: “و أصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين(10)” (القصص) و استنادا لأقوال ابن كثير فقد كادت أن تظهر أم موسى عليه السلام خوفها على وليدها و تسأل عنه جهرة إلا أن العناية الإلاهية كانت حاضرة أيضا فألقت بالصبر و التثبيت على قلبها.
و تأتي السيرة النبوية لتقدم شكلا آخر للمرأة و الأم و نذكر السيدة خديجة رضي الله عنها كمثال لخير نساء العالمين لقول المصطفى صلى الله عليه و سلم: “أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و مريم ابنة عمران و آسيا ابنة مزاحم”.
إن السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها الوحيدة من نساء النبي صلى الله عليه و سلم التي أنجبت له كل أولاده عدا ولده ابراهيم الذي أنجبته أم المؤمنين مارية القبطية، و أمنا خديجة هي رمز للمرأة المثالية و خير دليل على ذلك وقوفها الى جانب سيد الخلق حينما نزل عليه الوحي في بداية النبوة حيث دخل على السيدة خديجة و هو يرتجف قائلا: “زملوني.. زملوني..” فزملته حتى ذهب عنه الروع ثم أخبرها الخبر فقالت أمنا خديجة: “أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا و الله إنك لتصل الرحم و تصدق الحديث و تحمل الكل و تكسب المعدوم و تقري الضيف و تعين على نوائب الحق” ثم انطلقت به حتى أتت به ابن عمها ورقة بن نوفل و كان رجلا اعتنق النصرانية في الجاهلية فأخبره الرسول صلى الله عليه و سلم ما حدث معه فقال له ورقة هذا الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام.
و يبدو أن الحديث عن سيدتنا خديجة رضي الله عنها يدفعنا للوقوف أمام سيرة ابنتها فاطمة الزهراء أم الحسن و الحسين و بشارة ولادة الإمام المهدي المنتظر
في آخر الزمان فعن حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: “المهدي من عترتي من ولد فاطمة” (رواه أبو داود).
كان النبي صلى الله عليه و سلم يحب ابنته فاطمة رضي الله عنها حبا عظيما كما أحب أمها السيدة خديجة و كان كلما رآها يرحب بها و يخبرها بما لم يخبر به أحدا، و هذا موقف من المواقف العظيمة التي جمعت الأب بإبنته.
و خير ختام بهذه المناسبة السعيدة (عيد الأم) نقف أمام وصية من وصايا القرآن الكريم بهذه المرأة العظيمة لقوله تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن، و فصاله في عامين أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير (14)” (لقمان) و من هدي السنة النبوية نذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : “جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟، قال: (أمك) ، قال: ثم من؟ قال: (أمك) ، قال: ثم من؟ قال: (أمك) ، قال: ثم من؟ قال: (أبوك)” متفق عليه.