18 ديسمبر، 2024 11:10 م

العربانةُ من جلجامش الى هادي ماهود

العربانةُ من جلجامش الى هادي ماهود

يضع صديقي الموسيقار سامي نسيم موسيقاه التصورية لفيلم (العربانه )  للمخرج العراقي هادي ماهود من خلال موسيقى شجن روح المكان الموغل بقداسات الكهنة والابوذيات عبر تلك الثنائية التي ابتدأها جلجامش في ذات المكان الذي صور فيه ماهود فيلمه القصير ( العربانه ) ، أوروك أرض الملح والنخيل ، ساحة الحرب ، وملاعب الطفولة.

الفيلم بثلاثة عشر دقيقة ، صُورَ لحساب بغداد عاصمة الثقافة .

يضع هادي ماهود حرفته واحلامه تحت عجلات عربته ليسجل وقائع تأريخ المكان مع أبدية قدره وحزنه وخيباته ، ومنذ اللحظة التي يطل منها وجه صديقي ياسر البراك وهو يسجل في عمق ما يختزل الجفن من حيرة الأماكن  لثوانٍ ليختفي ، وتبدأ السيرة الذاتية للمحنة التي ظلت تركب العربات الصاعدة الى دلمون منذ اول رحلة خلود والى اخر طلقة حرب جاءت ويلفها علم الحنين عائدة الى اوروك حيث تمثل تقاسيم وصوت صديقي الآخر ( نجم عذوف ) شيئا من تقاسيم الاغنية التي كانت تتلى تحت ظلال النخيل وعند بوابات المعابد وفوق سواتر حرب.

أنها قصة وطن غادره فتى من أوروك ، وصل الى استراليا ، وعرض بضاعته في اليابان ، وسجال تواريخ الغرقى في الشواطئ الإندونيسية من فقراء اللجوء والهاربين من جحيم احراق قرى الاهوار وزنزانات مديرات الى الأمن الى انتظار الكمبات والشك الذي يلازم اللاجئين هل هذا لحم خنزير ام ذبح حلال ذلك الذي يقدم اليهم كطعام.؟

يمسك ( نجم عذوف ) لجام العربة ، ويمسك صدى الرغبة في سير الحفاة الى كربلاء من أجل شفاعة وسلام وطن ،  فما يحرك هادي مشاعره بحرفية عاشق لرصد الأسى الذي يغور في ذاكرة الجنود لتتلقفهم الجبهات في يانصيب الموت والحياة وحين يعودون يغادرون القطارات وباصات الريف ويصعدون عربة القدر التي تسجل على طرقاتها الترابية أساطير هذه المشاهد القاسية لبلد يأن من طعنة الحرب والمفخخة ولتسجل العدسة بتفرد من زواياها الذكية حكايات البالونات التي تشع برغبة الأمل أن جلجامش يعود ليرمم هذا الخراب.

فيلم ( العربانه ) سجل لزمنٍ الحزن والحلم والذكرى في المسافة القصيرة ربما بين محطة قطار السماوة والى المكان الذي يعتقد فيه الجندي القادم من مدن البارود أنه سيعود الى بستانه وحضن زوجته أم لهفة أبيه.

الفيلم سجلٌ لهذا القدر الذي يعتقده هادي ويسجله في رسالته السينمائية أنه تحولات الوجع منذ أن ناحت ننسون أم جلجامش من أجل عودة ولدها في رحلة مبتغاه الذي لم يتحقق .

 وكذا العربانه هي سفر الى ما لم يتحقق ، إلا أن التوثيق من خلال عيون الجندي تعيد تلك المشاهد التي صادفها الملك السومري في عودته الى اوروك ،حيث الحروب تبدل الحياة ،فلم يعد انكيدو وحده من حملهُ نعش حزن البلاد ، بل آلاف الجنود مثله.

العربانه  مشاهد لوطن أسكن فيه الجنوب رائية العدسة في بحثها عن هاجس تسجيلي متقن الفكرة بالرغم من الأمكنة لم تبتعد اكثر مما نتحمله وسنتحمله في بلوى البلاد التي وثقها هادي ماهود في اكثر من عمل سينمائي ، وها هو في العربانه يصوره  بتقنية بسيطة في طغيان الأسود والابيض المحتفل بمعاني القصيدة التي تسكن نواح الامهات قرب نعوش ابنائهن .

 وهذا النواح هو الاب الروحي للتاريخ البعيد لذات النواح الاول الذي أدركَ فيه ملك اورك أن الحياة خلودها في سلام الروح.

لكن اوروك لم تعرف هذا السلام بسبب ما ابتلت وستبتلي بذلك المجون الخرافي الذي اسمه ( تاج الملك ) الذي ينتج بدل القمح ( بيريات وخوذ ) الحرب .

وقائع الفيلم ،صورة الخواطر التي تسكن وعي المخرج . نجح أم لم ينجح في توصيل رسالته ، هذا قد لا يبدو مهماً في رؤية الناقد ، فثلاثة عشر دقيقة قد لا تكون كافية لتدوين محطات الطريق في سفر جلجامش ،لكنها في سفر هادي والعربة هي محطات ترينا ذلك القدر الذي سجلته الآلهة على جباهنا ، وصورته كاميرة المخرج ( السَماويُّ ) ليرينا بعض ما نخفيه ونخشى أن نجاهر فيه..!