23 نوفمبر، 2024 6:03 ص
Search
Close this search box.

دور الفلسفة في الحراك العربي الراهن

دور الفلسفة في الحراك العربي الراهن

“لقد دعتنا كل الثورات المجيدة إلى نزع هالة القداسة عن الأشخاص مهما كان المصدر الذي يستمدون منه تعاليمهم لأن الزعماء التاريخيين لم ينتجوا الثورة بل إن الثورة هي التي تنجب من رحمها زعماء تاريخيين يحافظون على قيمها ويصونون مبادئها “1[1]

بلا ريب إن ما يحدث الآن في الساحة العربية من تحولات عنيفة وتغيرات سياسية جوهرية هو حراك اجتماعي صاعد وتوق غير مسبوق إلى التمتع بالحقوق ومطالبة مستمرة بممارسة فلسفية للحريات. لقد سمي هذا الحدث بالثورات العربية في زمن مابعد حديث وارتبط بإرادة الحياة والتعطش إلى الديمقراطية والحياة المدنية والتعددية. وكانت رغبة الثوار في البداية هو إحداث قطيعة مع الارتداد نحو الماضوية والكف عن تبرير الشمولية كنهج في الحكم والانعتاق من نير التبعية نحو الثقافة الغربية المهيمنة والسياسات الظالمة للعولمة المتوحشة. ولكن بعد ذلك اتجه نحو فك الارتباط وإلغاء المديونية والدفاع عن السيادة ومقاومة التبعية والاندراج ضمن جبهة شعبية عالمية واسعة من المجتمع المدني العالمي. والحق أن واقعة الثورة أو الثورة الواقعة هي حدث تاريخي استثنائي في التاريخ العربي المعاصر سيكون له ما قبله وما بعده وسيدفع إلى انتصار الأمل في الإدماج والتوحد على غريزة التفكك والانقسام وستكون ثمار هذا الفيض الديمقراطي الذي أفرزه إشعاع التحرر على كافة المنطقة العربية. في كل الأحوال إن المدهش في هذا الحراك هو تشابك العوامل والمحددات الواقعية والافتراضية وتضافر الآليات التقنية ووسائل الاتصال الحديثة مع الإيديولوجيات والأفكار الثورية وتفعيل الذاكرة النضالية للشعوب ومشاركة فعالة للشباب والنساء والطلاب والعاطلين والناشطين والحقوقيين وغياب زعامات تقليدية للتحركات .

    من نافل القول بوجود تأثير واضح للفكر الفلسفي في المسار الثوري في البلدان العربية والآية على ذلك أن الاحتجاجات اندلعت في دول عربية تميزت عن غيرها بتقدم ملحوظ في الوعي ومستوى عال من التعليم والثقافة والتمدن وتشجع على تعليم الفلسفة وعرفت تجارب تحديثية وقامت بإصلاحات قانونية واجتهادات دينية ومحاولات لزرع الحداثة والتنوير لقرون خلت.

كما أن مصطلح الثورة كان حاضرا بكثافة في الأدبيات السياسية العربية والكراسات السياسية للأحزاب طوال القرن الماضي وبرز العديد من الأعلام الفكرية من جميع المرجعيات كثوار على السائد واتصفوا بالجرأة والتمرد والتجديد والتحرر ومحاولة تقديم البدائل ونحت المشاريع.

غير أن الزعم بالتأثير المباشر للفكر الفلسفي في الحراك الاحتجاجي هو أمر مبالغ فيه وذلك لسرعة اندلاع الأحداث وطابعها العفوي ومشاركة شرائح شعبية واسعة فيها وغياب نظرية ثورية متكاملة وفلسفة في الثورة واهتمام المشتغلين بالفلسفة بأمور شكلية ومنافع ذاتية. لقد أيقظت الثورة العربية الفكر العربي من سباته وجعلته يتفقد ذاته ويراجع مسلماته ويحاول أن يستوعب التحولات ويفهم الأمر الجلل والواقعة التي حصلت في الفضاء العمومي والزلزال الكبير الذي أصاب هرم السلطة والتصدع الذي ظهر على المنظومة القديمة التي كانت تزعم قدرتها على التحكم في ايقاع الحياة ونبض الوجود ومصير الشعوب ووجهة التاريخ. من هذا المنطلق صعدت أسهم الحديث عن الثورة والنضال والكفاح والتمرد والعصيان وصارت هذه المقولات لغة يومية في الصحافة والإعلام والأخبار والسياسة والثقافة والفكر وانفجر المكبوت وتضاعفت مساحات الحريات وشارك الناس بطريقة غير مسبوقة في النقاش العمومي وتم تنظيم انتخابات حرة ونزيهة وتم تداول هموم المعدومين والفئات الأقل حظا وتعرض منوال التنمية المتبع الى التهكم والسخرية ووقع استدعاء الخبراء والطاقات لتقيم البرامج والحلول. اللافت أن الثورة العربية قد قربت الثقافة العربية من القول الفلسفي الجديد الذي كان كل من أركون والجابري والعروي وحنفي وأبي زيد وتيزيني والعظم ومروة وشريعتي وغيرهم قد ساهموا في تشكله وصعوده. بيد أن الأهم هو الفرز الكبير الذي أحدثته بين ثقافة السلطة وثقافة المعارضة وبين مجال المصلحة وحراس النظام ومجال العدالة وحراس الحرية والحق. ربما ماهو مطلوب اليوم بعد هذا الحدث الجلل والفارق ليس تكديس المشاريع الفكرية والاكتفاء بالتنظير المعرفي وطبع المجلدات والكتب على أهميتها بل الانخراط في ثقافة جديدة منفتحة على الجمهور وملتزمة بقضايا الشباب والمعطلين وكل ضحايا الازدراء الاجتماعي.

في حقيقة الأمر كم نحتاج إلى تكرار الانتفاضات وإجراء عمليات عديدة في تثوير آليات إنتاج العقل العربي للحقيقة والذهاب بعيدا في مساءلة الواقع العربي وتجويد طرح مشاكله والتنقيب عن معضلاته وأمراضه والتفتيش عن علله وإعادة صياغة مقولات الثقافة العربية وتأسيس فلسفة الثورة العربية بكل اقتدار وعزم. لقد ساعدت هذه التحولات على طرح أسئلة مختلفة عن غيرها ونابعة من الأرض الناطقة بلغة الضاد وتتماشى مع خصوصية الهوية القصصية القرآنية وتهتم بالخصوص بقضايا الكرامة والإنسانية ودولة الرعاية الاجتماعية وتبحث عن الاعتراف المتبادل والإنصاف وتتحلى بقيم المدنية والسلمية والتعايش وترفع لواء الصفح والغفران وتعد بالأمل في حياة سياسية عصرية وحكم مدني غير شمولي وغير عنصري وغير تابع  وتريد الحياة  في مجتمع عادل ومتعدد. العلاقة المتينة بين الفلسفة والديمقراطية هي كالرابطة الوثيقة بين الثورة والدولة. فإذا كان مطلب الدولة القوية لا يتحقق الا بعد اتمام ثورة اجتماعية كبيرة فإن بلورة مشروع فلسفي ضخم يرتقي بالإنسان يتوقف على بناء حياة سياسية ديمقراطية تعطي لكل مواطن  حقه الطبيعي في التفلسف. حقيق بنا أن نبين أن دور الفلسفة في الراهن العربي هو التصدي لكل أشكال الانقلاب على المسار الديمقراطي ولو كان تحت مسمى الإنقاذ ورعاية المصلحة الوطنية والآية على ذلك أن “الديمقراطية تحارب اللاتسامح الديني وتنبذ التعصب المذهبي والتشدد في القراءة وترفض توظيف العقائد الدينية في الصراع السياسي وتعترض على احتكار التكلم باسم المقدس وتدفع الناس إلى أنسنة الدين وتأويله بما يوافق روح العصر الذين يعيشون فيه وحسب مقتضى المدنية”2[2]. وبالتالي نحن في انتظار ميلاد فلسفة الثورة على نحو أصيل وفارقي تكون قادرة على نحو ملموس على التعبير عن الوعي بالمرحلة التاريخية الحرجة التي تمر بها الأمة والحاجة الجوهرية للتغيير الجذري في بنى الفكر والواقع واللغة والدين وتعكس رغبة الفاعلين في الالتزام والمشاركة والفعل.

لعل أهم سؤال انبثق بعد الحراك الاحتجاجي العربي : هو كيف نعود إلى التاريخ من جهة الإبداع وصناعة الكونية لا من جهة الاستهلاك والمحافظة على الخصوصية ؟ ما السبيل إلى بناء دولة لا شرقية ولا غربية تتعامل بندية مع الأجوار وتعمل على التخلص من التبعية الثقافية والاقصادية والسياسية وتحقق شروط الاستقلال والاستئناف الحضاري الثاني؟ ألا ينبغي أن نجعل من الحرية مقام راسخ للكينونة العربية وليس مجرد مطلب حقوقي عارض ومعرض للانتهاك ؟ متى يكف العربي عن الحلم اليوطوبي بالزعيم المخلص الذي يدحر الفساد والظلم وينشر العدل في الأرض ويسارع إلى تثبيت الفرد المواطن وغراسة شجرة الديمقراطية والتقدم والعناية بمسالك التحرر والعدالة الاجتماعية؟ أي دور للفلسفة في منع الحراك الاجتماعي إلى الانجراف نحو الحروب الأهلية المدمرة وتفاقم الاضطراب العضوي في جسد الأمة؟

الهوامش والإحالات:

[1]  زهير الخويلدي، الثورة العربية وإرادة الحياة، مقاربة فلسفية، الدار التونسية للكتاب،  تونس، طبعة أولى، 2011،ص52.

[2]  زهير الخويلدي، الثورة العربية وإرادة الحياة، مقاربة فلسفية، ص 246.

المراجع:

زهير الخويلدي، الثورة العربية وإرادة الحياة، مقاربة فلسفية، الدار التونسية للكتاب،  تونس، طبعة أولى، 2011،

كاتب فلسفي

 

 

[1]  زهير الخويلدي، الثورة العربية وإرادة الحياة، مقاربة فلسفية، الدار التونسية للكتاب،  تونس، طبعة أولى، 2011،ص52.

[2]  زهير الخويلدي، الثورة العربية وإرادة الحياة، مقاربة فلسفية، ص 246.

أحدث المقالات

أحدث المقالات