26 نوفمبر، 2024 10:44 ص
Search
Close this search box.

السياسي الأخير

لم يكن يشترك في الحديث السياسي، فهو من عائلة بعيدة عن السياسة، قريبة من العسكرية، كان يهرب دائما ويعترض اذا ما تعرضنا لصدام، لم يكن يجمعنا سوى المائدة التي نخف اليها مسرعين، هروبا من عذاب يوم شاق مع الخاكي والاوامر والعقوبات، اما هو فكان يرفل بالعز في التصنيع العسكري، لايهمه ان يكون تكريتيا، او من الانبار، يبيع ميسان بلحظة امام عقلية امنية او عسكرية يأتي بها بعض الاحيان بالصدفة، مايضطرني ان اترك ليلتي واهرب، وانا ممتعض من مايقوم به كريم.

كم قلت له انني اكره الاغنياء ورجال الامن، لم اصادق احدا منهم في حياتي، لكنه كان يجيب دائما بانهم ينفعون، (والف صديق ولاعدو واحد)، لم يكن كريم صديقي اطلاقا، وكنت اضيق به في احيان كثيرة، فقد كان نهما فارغا، لم يأت يوما وبيده كتاب، او قرأ كتابا، واذكر يوما انه اتى باحد الموظفين معه من الاغنياء، لم اجامل صديقه ابدا فقد كان مثله، يخشى ذكر اسم صدام حتى، لم يشترك الضيف باي حديث، فقط حين اكملنا دفع الحساب، وعلمت اخيرا انه من الاثرياء الذين لاذوا بالتصنيع العسكري هروبا من الخدمة الالزامية، او المحرقة كما يسميها.

انتهت الجلسة بالزعل لانني رفضت ان يقلني الضيف بسيارته المارسيدس الى منزلي، وآثرت ان اسير باتجاه ساحة الطيران، لانفرد بنفسي قليلا وانعش ذاكرتي مع خطوات ابي نؤاس المبللة برذاذ دجلة، كان عالة كبيرة علينا، فهو يرفض التكلم بالسياسة، ولايشترك باحاديثنا الادبية، المزة كانت همه الاول والاخير، وصديقه ابو الطرشي الذي يجوب البارات يوميا، والذي كشف سره لنا، ولاندري ما مدى صدقه في هذه المعلومة ايضا: انه احميّد السري كما كان يسميه اهلنا في العمارة، وكان كريم يلثغ بحرف الراء فتخرج السري من بين شفتيه وكانها صاعقة تحط على رؤوسنا.

عندما يصل احميّد السري، يسود الصمت وكأن عزرائيل يتخطى الرقاب، يضع سلة الطرشي التي تحتضن القدر الابيض المملوء (بالخيار)، ولانكتفي بالكحول، بل نشرب ماء الطرشي ( الخل) ويكون باردا وسط صمت رهيب، خوفا من ان ينزلق اللسان الذي كان معتادا على التعريض بصدام، عندما كان يرى حرجنا وتوجسنا، يترك سلة الطرشي، ويسحب كريم على جهة، فكان منا من يغادر ومنا من ينتظر المفاجأة، ويعود كريم دائما: ( ايكلي خوما كلتلهم هذا بالامن)، يزداد خوفي، وانام

تلك الليلة مرعوبا، وانا ارى احميّد بشتى الاحوال، مرة رأيته ضابطا، واخرى رأيته يسير مع صدام في احدى مقابلاته، كان احميد يترنم ببعض الدارميات، التي يستفز من خلالها الموجودين، دائما يكرر الشعر الذي تمثل به احد السياسيين في ذلك الزمن في بعض جلساته:( يوم ويرد الوكت لينهْ…. ونضحك على الضحكوا علينهْ)، وينتظر الاجابة، الى ان يصيبه اليأس فيرحل بعيدا، الى بار آخر او صيد آخر، غادر كريم الى اليمن في التسعينيات، بعد ان استقال من التصنيع، وطرد احميّد من الامن بحملة ترشيق مفاجئة، وكانت 2003.

صار كريم مفصولا سياسيا ويراجع على احتساب خدمته، وحظي احميّد السري برتبة ممتازة في النظام الجديد، بنفس اللاءات التي كانت يطلقها كريم، كان يحافظ على استقرار العملية السياسية، ( ياهو اليكدر كبل يشتري ثلاجه، دكلوا اووصوصوا، لو صدام اخير)، كان يطلق الراءات متزاحمة، فاجهش بالبكاء، لوطن (احميّد السري، وكريم) الجديد، تسلم كريم اكثر من ثمانية قروض من مصارف متعددة، وتمتع بجميع الامتيازات التي تمتع بها المحرومون، والسياسيون الذين فصلوا من الخدمة، اما اخوه رجل المخابرات، فهو استاذ بالجامعة، مأمورية للمخابرات في الجامعة المستنصرية، كان عمار مرشحا لها.

اكمل البكلوريوس، والماجستير، ولم يكد يتناول الدكتوراه، حتى سقط النظام، اكمل بوجهه، وصار دكتورا على ملاك الجامعة، ولم يذكر احد ان عمار رجل مخابرات صدامي حتى النخاع، فالشعب العراقي ينسى ويحاول دائما ان يقلب صفحة الماضي، بلا عودة للخلف وتمزيق لنسيج المجتمع المتماسك، هذه كلمات عمار الاخيرة وهو يقوم العملية السياسية الخطيرة، والتي سيكون بها السياسي الاخير، لانه اجمع امره بالترشيح للبرلمان بقائمة السيد، ولم يقل اكثر من هذا، وربما دخل احميد السري معه الانتخابات تحت يافطة السياسي الاخير.

أحدث المقالات