ان تفشي ظوهر العنف والارهاب والتطرف والتكفير ولأول مرة في العالم العربي والاسلامي وتصاعد وتائره كما ونوعا وامتداده في رقعة جغرافية واسعة تمتد من المغرب الى إندونيسيا، ليصل الى مناطق ودول وحضارات بحيث يتحول الى مصدر خطر كبير على العالم وعلى الاسلام نفسه. وان أخطر ما في هذه الظاهرة جانبها اللامرئي فيها وهو عالم الافكار الايديولوجية التكفيرية التي تزود الارادة بطاقة حيوية على الانتقام والقتل. ان هذه الظاهرة لم تنتشر الا بعد ان وجدت لها دوافع وأسباب وتربة حاضنة مولدة لها.
وبحسب علماء النفس، فليس هناك علاقة بين الارهاب والديني والقومي والمذهبي لان من يمارس الارهاب له مواصفات سيكولوجية عامة. فالإرهابي هو شخص مصاب بالعمى العام فلا يرى من الحقيقة سوى وجها واحدا، وهو ممارسة القتل والذبح وقطع الرؤوس بقسوة لتحقيق هدفه، حتى لو توفرت امامه خيارات أخرى. فهو يكفّر بدل ان يفكّر في نتائج ما يقوم من اعمال إرهابية.
وبالرغم من انجاز عدد كبير من البحوث والدراسات التي بحثت في سيكولوجيا العنف والارهاب ومن خلفيات مختلفة، غير أنها لم تستطع تقديم اجابات شافية. وبعد دراسات وبحوث علمية أجريت على عدد من الارهابيين، لاحظ العلماء بأنه، من النادر ان يعاني هؤلاء من امراض نفسية، فيما عدا نسبة قليلة منهم، الذين يعانون من اضطراب في الشخصية التي تتميز بممارسة العنف المفرط. وعموما فان الأغلبية الساحقة من الارهابيين بما فيهم الانتحاريين هم غير مصابين بأمراض نفسية أو عقلية. غير ان العامل المشترك الذي يجمع بينهم هو ايمانهم العميق ويقينهم المطلق بأيديولوجيتهم الدينية المتطرفة، والأهم من ذلك يقينهم المطلق بصحة وعدالة ما يقومون به من أعمال إرهابية من دون أي تفكير بالنتائج المرتقبة من أعمالهم الارهابية.
ان هذه الظاهرة السيكولوجية تبقى في غاية الغرابة والخطورة وتثير تساؤلات هامة منها: كيف يمكن لشخص سوي وغير مصاب باضطرابات نفسية ان يتحول الى ارهابي لا يكترث بحياة وآلام الآخرين، بل ويفجر نفسه وسطهم وهو منتشي من الفرح؟!
لنأخذ اراء بعض علماء النفس في هذا الموضوع. فقد أكد عالم النفس الامريكي انتون كوبير بانه “ليس هناك أية فروقات بين الإرهابي والجندي”، فكلاهما ينتقي أسلوب تحقيق اهدافه باستخدام السلاح. وقد اشار متري شانسكي مؤلف كتاب “سيكولوجيا الارهاب”، بان علم النفس عاجز عن تأدية هذه المهمة. فمن وجهة النظر السيكولوجية ليس ثمة صورة متفق عليها للإرهابي بين علماء النفس، ومعنى هذا ان هذا الموضوع لا يرتبط بمجال علم النفس أو علم الاعصاب، وانما بمجال ابعد وأعمق من ذلك، وعلينا ان نوجه انظارنا الى مجال الاجتماع والثقافة والسياسة ونتساءل عن البواعث التي تدفع شخص ما الى ارتكاب عمل إرهابي؟.
يرى الدكتور رياض عبد، الذي حاول تفسير عملية التغير السيكولوجي التي يمر بها الفرد لكي يكون إرهابيا، بأنه غالبا ما تبدأ هذه العملية باختزال هوية الآخر الى هوية أحادية مسطحة واعتباره كافرا وعميلا خائنا، وفي ذات الوقت، اختزال هوية الذات الى هوية أحادية واعتبار نفسه مجاهدا ومقاتلا وشهيدا. ان انتزاع صفة الآدمية عن العدو يحوله الى كائن لا قيمة له ولا يستحق الحياة. وان اليقين الراسخ الذي يملكه الارهابي هي حالة اعتقاد مشابهة لحالات المرض العقلي الذهاني التي تتميز باعتقاد لا يتزحزح بالأوهام التي غالبا ما تؤدي الى اضطرابات في السلوك، بالرغم من ان عددا من علماء النفس يرون بان حالة اليقين عند الارهابي لا تعتبر دوما مرضا عقليا وذلك لان اعتقاد الارهابي وسلوكه لا يشوبه اضطراب واضح، وهذا يعود الى الايديولوجية التي تحتوي على عناصر اضافية تختزل العلاقة مع الآخر بكونه كافرا وعدوا، وبذلك يسهل انتزاع آدميته. وهذه الايديولوجية تعطي التبريرات الكافية لاستخدام العنف المنفلت نحو الآخر والتي من الممكن ان تؤدي الى الارهاب.
أما الدكتور قاسم حسين صالح، فيرى بأن الانجذاب نحو التطرف هو بسبب ان الاسلاميين المتطرفين وجدوا أنفسهم محاصرين بثلاثة انواع من الأطواق الخانقة وهي: –
أولا-حصار خارجي يتمثل بدول الغرب الكبرى
ثانيا-حصار داخلي يتمثل بالأنظمة السياسية القائمة
وثالثا-حصار الحركات والتيارات اليسارية والعلمانية وغيرها
ويشير قاسم حسين صالح الى ان نزعة الانسان الى البقاء تدفعه الى فك الحصار عن نفسه بأية وسيلة كانت والتحرر من هذه الأطواق الخانقة. فالارهابيون مخلصون تماما لمعتقداتهم فلا يوجد أكثر اخلاصا للمعتقد من أن يضحي الفرد بحياته من أجله، ولا فرق من حيث الفعل النفسي والادراكي بين إرهابي يشد نفسه بحزام ناسف ليفجرها بين حشد من الناس وبين عمر المختار الذي يضحي بنفسه من أجل وطنه، فكلاهما ينتهي الى نهاية واحدة: تدمير الذات وإفناؤها، والفرق يكمن في المعتقد. فالسياسي الذي يخيّر بين الإعدام وبين التخلي عن معتقده ويختار الاعدام إنما يضحي بنفسه من اجل هدف واقعي يراه خيرا وجيدا للناس ولا يلحق الأذى بالآخرين انما التعاطف معهم، فيما يؤدي تدمير الإرهابي الانتحاري لنفسه الى ارتكاب جريمة بقتل نفوس بريئة وإلحاق الأذى بآخرين من أجل هدف خيالي نسجه في تفكيره ومعتقده ويراه الآخرون هدفا وهمياً أو باطلاً. كما يؤكد على ان الخلل ليس في الانسان بحد ذاته، وإنما في طبيعة معتقده الذي يجيز له الفتك بأرواح بريئة من الناس ومن أبناء قومه أو غيرهم. والإرهابي عصابي، فهو يفقد الوعي والمرونة في التعامل مع الأمور ولا يجد أمامه إلا حلاً واحداً لكل قضية تسيطر على تفكيره وتجبره على القيام به بعناد، حتى لو كان فيه فناؤه.
إذن كيف يفكر الإرهابي وما هي دوافعه وحججه وتبريراته وأي منطق يستخدم؟ كل هذه الأسئلة جعلت علماء الاجتماع وعلماء النفس وغيرهم يحتارون في الإجابة عليها. مع ان البعض منهم حاول دراسة دوافع هذه الاعمال الإرهابية وخاصة حين يفجر الانتحاري نفسه بحزام ناسف أو سيارة مفخخة وسط سوق شعبي أو مدرسة أو جامع أو أي مكان آخر فيبيد العشرات من الأبرياء دون ان يشعر بأي ذنب أو حزن! والأكثر غرابة في الأمر انه يقتل نفسه او يفجرها بحزام ناسف وهو منتشي من الفرح وفي حلم لقاء حور العين في الجنة التي وعدوه بها الشيوخ الذين يحرضون على الجهاد.
والحقيقة ان وراء هذه الاعمال الانتحارية أسباب ودوافع مختلفة ومعقدة، اجتماعية ونفسية ودينية وسياسية، فليس من السهولة معرفة دوافع من يقوم بتفجير نفسه بسيارة مفخخة أو بحزام ناسف أو غيرهما إلا بأيمانه وبقناعته التامة بأنه يقوم بذلك من أجل قضية يؤمن بها. وليس
من الضروري ان يكون الانتحاري شخصا بسيطا وساذجا أو معتوهاً أو مريضا نفسيا أوقلقا ومعقدا يمكن استدراجه بسهولة وتوظيفه في العمليات الانتحارية، فهناك عدد من الانتحاريين الذين انخرطوا في الحركات الإرهابية وشاركوا في هجمات 11 أيلول عن أيمان وقناعة هم من المتعلمين ومن حملة الشهادات العالية. كما ان هناك من انخرط في العمليات الإرهابية لأسباب ماسوشية استلابية، يأساً من الحياة وهروباً منها بسبب دوافع سيكولوجية مرضية أخرى أو حباً في الظهور أو لأسباب سادية بدافع العنف والتسلط على الآخرين.
ويرى عالم النفس اللبناني أسامة دحدوح ان المنتحر يصنّف في خانات عدة. فهو يعيش في حالة نفسية يطلق عليها Paranoiaque وهي شغف كبير لشعور داخلي مكوّن داخله، وهذا الشعور يولد لديه شغفاً تجاهه ليفكر ماذا يمكن ان يفعل لهذا الشعور؟ فهو يضحي بنفسه وحياته او أكثر من ذلك فداء لهذا الشغف الداخلي الذي يسكنه وقد تصل به حالته النفسية الى حد الهذيان. وهذه الحالة النفسية تصيب الأشخاص الذين يؤمنون بفكر معين بحيث تتكون في رأس هذا الانسان أفكارا يعلم الجميع بأنها خاطئة ولكنه مقتنع بانها صائبة في المطلق الى درجة الهذيان.
المهم جدا هو معرفة ان الانسان المصاب بهذه الحالة من المؤكد ان يكون له قابلية وشعور داخلي على الانتحار يسيطر على تفكيره. وان أي انسان ليس لديه هذه القابلية الداخلية ، مهما حاولنا زرع أفكار في رأسه، فإنه لا يقدم على فعل الانتحار، ولكن إذا كانت لديه هذه القابلية الداخلية الموجودة أساساً، تأتي التنشئة الاجتماعية والتربية والمحيط الاجتماعي لتغذية فكرته وتنميتها وتقويتها وجعلها قابلة للتنفيذ، خاصة في الحالات الجماعية التي تجمعهم هذه الحالة النفسية ويغذون بعضهم بعضاً، وبالتالي يعيشون الواقع الذي يشعرون به معا فيقوون حالة اليأس. ولكن هذه الحالة مهما وصلت حدتها فلن يفكر الانسان معها بنحر الآخرين، بل فقط يقتل نفسه.