في بداية أربعينيات القرن الماضي.. كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها بين ألمانيا وبريطانيا، حيث يصل عدد القذائف التي تسقط فوق لندن الى مئتي ألف قذيفة في اليوم الواحد.. وفي صباح أحد الأيام كان وزير العدل البريطاني مسرعا بسيارته للوصول إلى اجتماع طارئ لمجلس الوزراء، وصادف أن عبر عامل القمامة الشارع بعربته أمام سيارة الوزير.. فاضطر الوزير الى الإبطاء قليلا، ارتبك العامل لحظتها فدفع عربته بسرعة تسببت في سقوط بعض القمامة على أرضية الشارع.. حاول العامل التوقف لالتقاط الأوساخ وإعادتها الى العربة.. ما سبب تأخر سيارة الوزير ثوانيَ قليلة، فقد الوزير أعصابه فأخرج رأسه من نافذة السيارة وقال للعامل: (أحمق).. التقط العامل رقم السيارة وقدم شكوى لبلدية لندن .أصدرت البلدية أمرها بعدم رفع النفايات من أمام بيت الوزير، ورفعت الشكوى الى ونستون تشرشل رئيس الوزراء، فطالب الأخير وزيره بالإعتذار للعامل.
الذي حدث ان الوزير استقال فورا.. وذهب ليقدم اعتذاره للعامل، إلا أن تشرشل رفض الاستقالة..! وقال للوزير: لقد قمت بإهانة العامل وأنت بمنصب وزير.. ولن أرضى أن تعتذر وأنت شخص عادي.. استقالتك معلقة حتى تعتذر وأنت وزير.. وحينها سأوافق..! وحصل هذا فعلا.. فقد اعتذر الوزير.. ثم قبلت استقالته.
خلال التسعة ايام التي استغرقتها هذه القضية، تجمعت القمامة أمام منزل الوزير تلالا.. وصارت رائحة الشارع الذي يقطن فيه لا تطاق.. ما جعله ينزل كل ليلة لينقل بسيارته الخاصة بعضا منها إلى خارج المدينة!.
ماذكرني بحادثة وزير العدل البريطاني ورد فعل تشرشل، هو تكرار التجاوزات التي مازال يمارسها حمايات المسؤولين في الدولة العراقية، بحق الإعلاميين والصحفيين العراقيين الذين يؤدون واجباتهم أينما يقتضي الأمر، أو فلنقل أينما تستوجب (خبزتهم) أن يكونوا، او لنقل أيضا أنى يحتم عليهم نداء المهنة الاستجابة له، او لنقل (وين مايدولبهم حظهم)، ولسوء حظ بعض الإعلاميين والصحفيين العراقيين، أن طالعهم يرمي بهم الى حيث أناس يشغلون مهام حماية مسؤول، وهم في حقيقة الأمر لايملكون من الأخلاق الأساسية إلا النزر اليسير، فضلا عن افتقادهم كثيرا من أخلاقيات المهنة وسلوكياتها، وهذا قطعا يتأتى من مسؤولهم المباشر، إذ لاشك أن (شبيه الشيء منجذب اليه) وإلا لما تمادى معيته ورعيته في التصرف الشاذ والأرعن، باعتدائهم على إنسان يمارس مهنته بكل شرف وإخلاص، لاسيما مهنة نشر الحقيقة بعد جلبها من (حلگ السبع) وقصدي بالسبع هنا هو الظرف الصعب الذي يعيشه العراق، وليس مقصدي الحماية ولامسؤولهم.. فالأخيرون لايمكن تشبيههم بالسباع ولا اللبوات، فهم ضباع علا ضـُباحها النشاز وطالت مخالبهم -بفضل مسؤوليهم طبعا- فراحوا يسيئون التصرف بتجاوزهم على الإنسان العراقي، وهذا ديدن الضعفاء والجبناء. وليس ببعيدة عنا الجريمة التي راح ضحيتها الإنسان العراقي البريء (محمد بديوي)، وقبلها حوادث وبعدها أخريات تذكرنا بأسلوب النظام السابق في تعامله مع شريحة الإعلاميين والصحفيين والمثقفين.
إن على المسؤولين -الكبار شأنا قبل الصغار- ان يعوا ان إساءة منتسبيهم الى أي مواطن، يعد أساءة تعود بالسمعة السيئة الى شخصهم أولا والى مؤسساتهم ودوائرهم ووزاراتهم ثانيا، الأمر الذي يتطلب الحزم في متابعة المنتسبين وضبط تصرفاتهم، وإلا يختلط الحابل بالنابل ويصبح قانون الغاب هو السائد في البلاد.