15 نوفمبر، 2024 8:22 ص
Search
Close this search box.

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم

الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أمر الله تعالى ملائكته بالسجود له باعتباره سيد الموجودات وآدم (عليه السلام) كان بمنزلة النائب عن جميع الناس، وهذا يدل على شرف الإنسان وتعظيمه ويظل هذا التعظيم ملازماً للإنسان مدى الدهر شريطة أن لا يخرج عن طاعة الله تعالى فهو بهذا العنوان أفضل من الملائكة أما إذا سلك طريقاً آخر فمن الطبيعي يصبح كالأنعام بل هو أضل بسبب ضياعه للعقل الذي كرمه به الله تعالى وفضله على كثير ممن خلق، كما في قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) الإسراء 70. وإذا جمعنا آية سورة الإسراء مع آية البحث التي ستمر عليك يظهر أن التكريم والتفضيل لا يشمل آدم باعتباره الإنسان الأول وإنما يمتد إلى البشر بصورة عامة، ولا يعزب عنا في هذه المناسبة أن نذكر سيد الكائنات وأفضل الخلق نبينا محمد (ص) وفي القرآن الكريم هناك دلائل كثيرة تبيّن هذا المعنى أهمها القسم بعمره الشريف الذي ورد في قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) الحجر 72. وفي هذا ما يدل على أنه (ص) لم يصدر منه أي ذنب لا عن طريق العمد أو الجهل ولا حتى السهو، وإلا لم يكن للقسم بعمره معنىً فتأمل. إضافة إلى ذلك فإن النبي محمد (ص) لم يزل ينتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات على مدى عمر الزمن منذ أن خلق الله تعالى آدم وحتى ولادته (ص) وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم***وتقلبك في الساجدين) الشعراء 218-219.

من بعد هذه المقدمة يمكن القول إن الأمر بالسجود الذي ورد في قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) البقرة 34. يظهر أنه جاء حسب سياق الآيات بعد مرحلة تعليم الأسماء والفراغ من المناظرة التي تمت بين الله تعالى وبين الملائكة بما فيهم إبليس وإن لم يكن من جنسهم، ولكن الحقيقة أن الله تعالى قد أمرهم بالسجود لآدم بعد خلقه ونفخ الروح فيه مباشرة، كما في قوله تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر 29. ص 72. وما يدل على صحة هذا الوجه هو التعقيب بالفاء، فإذا ثبت هذا تكون المناظرة قد حصلت بعد مرحلة السجود، بغض النظر عمّا ورد في سياق الآيات. فإن قيل: هذا مخالف لصريح القرآن؟ أقول: ليس هناك ما يخالف القرآن لأن للسياق دور مهم في التقديم والتأخير، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة، كما في قصة البقرة التي بين الله تعالى دوافع ذبحها، ثم أتى بما يربط تلك الدوافع وأظهره بصورة مفاجئة وذلك في قوله: (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) البقرة 73. وهذا ما أراد الله تعالى تبيانه دون النظر إلى أمر القتيل وذلك من أجل تناسق الآيات مع بعضها كتلك المشار إليها في جمل متقاربة تشترك جميعها في إظهار القدرة على الإحياء بعد الإماتة، وهذا ما بيّنه تعالى في نقل قدرة إحياء الطير لإبراهيم، وكذا ما كان من أمر صاحب الحمار الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، بالإضافة إلى الذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم فتأمل ذلك بلطف.

من ذلك نعلم أن القرآن الكريم لا يراعي الترتيب الزمني، ولهذا جعل السياق يبيّن أهمية العلم باعتبار أن المراد من الحديث هو إظهار ما يتفاضل به آدم على الملائكة، وقد يستفاد هذا المعنى من قوله: (وإذ) أي اذكر لمّا قلنا للملائكة اسجدوا… إلخ، فإن قيل: كيف أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم والسجود لا يصح لغيره سبحانه؟ أقول: للسجود مجموعة من المصاديق أهمها ما هو متعارف عليه من وضع الجبهة على الأرض، وهذا يُفهم من خلال السياق أو يأتي مع قرينة الخرور، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى بقوله: (قل

آمنوا أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً) الإسراء 107. وقريب منه مريم 58. وكذا السجدة 15. ومنه قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً) يوسف 100. وقد يطلق السجود ويراد منه الركوع، كما في قوله تعالى: (وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم) البقرة 58. وقريب منه الأعراف 161. والمراد في الآيتين هو الركوع، لأن السجود العرفي لا يتناسب مع دخول الباب. وبهذا نكون قد علمنا أن السجود هو مظهر من مظاهر التواضع، ولا يخفى على من له دراية في التأريخ من أن هذا الأمر كان معتمداً لدى بعض الأمم ولا يزال قائماً إلى اليوم.

وبناءً على ما قدمنا يتضح أن السجود إذا كان بعنوانٍ غير عنوان العبادة فهو جائز لغير الله تعالى، ومن هنا يتحصل أن الأمر الموجه للملائكة فيه نوع من التعظيم لآدم، كما هو الحال في آية سورة يوسف آنفة الذكر، وبهذا يظهر فساد من ذهب إلى أن السجود كان لله تعالى وما آدم إلا قبلة لذلك. فإن قيل: إذا كان الأمر هكذا فما سبب امتناع إبليس عن السجود لآدم؟ أقول: امتنع إبليس عن السجود لآدم لأنه كان يرى أن هذا العمل يقلل من شأنه باعتباره مخلوق من نار وآدم من طين، بمعنى أن الدوافع كانت عنصرية كما في تعبيرنا اليوم، وهذا ما بيّنه تعالى بقوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً) الإسراء 61. وقد ورد هذا المعنى في مواضع أخرى بألفاظ مختلفة. فإن قيل: يظهر من سياق آية البحث وكذا الآيات التي في معناها أن إبليس من جنس الملائكة؟ أقول: إبليس من الجن وليس من الملائكة، كما في صريح قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف 50. فإن قيل: امتناع إبليس عن السجود كان باختياره لأن الجن لهم اختيار ولو كان عند الملائكة نفس الاختيار لظهر منهم الامتناع ايضاً؟ أقول: الملائكة لديهم نسبة من الاختيار لا سيما هذا النوع الموكل في التعامل مع الإنسان. فإن قيل: يظهر من قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) التحريم 6. أنهم لا يملكون الاختيار؟ أقول: هذا سنخ آخر من الملائكة وهم المشار إليهم في قوله: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) النحل 50. وكما في صريح القرآن، فإن بعضهم من خزنة النار وبعضهم من العالين الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم، ولهذا خاطب الله تعالى إبليس بقوله: (أستكبرت أم كنت من العالين) ص 75. أما الذين أمروا بالسجود فهؤلاء لهم ارتباط مع الإنسان، وقد ذكرهم الله تعالى في كثير من الآيات، كما في قوله: (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) يونس 21. وهناك آيات أخرى بنفس الاتجاه الذي وكّل به الرسل، ومنه قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ق 18. وكذا قوله: (والنازعات غرقاً) النازعات 1. وقوله: (وإن عليكم لحافظين***كراماً كاتبين***يعلمون ما تفعلون) الانفطار 10-12. وكذلك قوله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) الرعد 11.

فإن قيل: ربما يكون امتناع إبليس عن السجود لأن له عقل وشهوة كما هو الحال في الإنسان أما الملائكة فلهم عقل بلا شهوة كما يُدّعى؟ أقول: هذا الادّعاء أيضاً غير صحيح، لأن للملائكة شهوة معنوية تتفرع على حب الترفع وما من شأنه العلو على غير جنسهم، وهذا ما يظهر من قوله تعالى على لسانهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) البقرة 30. فإن قيل: إذا لم يكن إبليس من جنس الملائكة فكيف يكون مشمولاً معهم في الخطاب؟ أقول: إبليس كان يشترك مع الملائكة في نفس الخصائص ولهذا كان مشمولاً في الخطاب، وينطبق عليه ما عليهم، أما ما ورد من سبق الإشارة إليهم فهذا بسبب التغليب، ولذلك كان استثناؤه منهم هو استثناء منقطع، وليس هناك ما يمنع هذا النوع من الاستثناء، بل العكس هو الصحيح فالاستثناء المنقطع لا يلزم المستثنى أن يكون من جنس المستثنى منه، وفي القرآن شواهد كثيرة لهذا المعنى، كما في قوله تعالى: (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون***إلا رحمة منا) يس 43-44. وكذا قوله: (ما لهم به من علم إلا اتباع الظن) النساء 157. وقوله: (لا يسمعون

فيها لغواً ولا تأثيما***إلا قيلاً سلاماً سلاماً) الواقعة 25-26. وكذلك قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) النساء 29. فإن قيل: ورد في آية البحث قوله تعالى: (وكان من الكافرين) هل هذا يعني أن إبليس كان من الكافرين قبل هذه الواقعة؟ أقول: لم يكن إبليس من الكافرين قبل هذه الواقعة وإنما صار منهم بسبب عدم امتثاله للسجود وبهذا يظهر أن (كان) بمعنى صار وهذا كثير في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) هود 43. أي صار من المغرقين. وكذا قوله: (وبست الجبال بسا***فكانت هباءً منبثاً) الواقعة 5-6. وقوله: (وفتحت السماء فكانت أبواباً***وسيرت الجبال فكانت سراباً) النبأ 19-20. فإن قيل: ذكرت في صدر البحث أن قوله تعالى (وإذ) أي اذكر لمّا قلنا للملائكة اسجدوا… إلخ، وهذا يعني أن (إذ) تستعمل للماضي وهذا يتعارض مع قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) المائدة 116.؟ أقول: هذا بمعنى تقدير المستقبل الذي لا يتخلف لأنه من الله تعالى فيكون حكمه حكم المتحقق، كما في قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً) الأعراف 44.

أحدث المقالات

أحدث المقالات