كان مصرا على الادلاء بصوته في الانتخابات، قطع مئات الكيلومترات، مع صعوبة الانتقال من محافظة الى اخرى، لكنه كان مصمما، صوتي ربما يغير كثيرا من المعادلات، انا مهندس مدني واعلم ان العزوم مهمة جدا في تصميم البناء، ليكن صوتي عمودا مهما، او جسرا يعطي قوة مضافة للبناء، لم يرهقه الطريق، فقد حصل قبل شهرين على عقد باجر يومي في احدى الوزارات العاملة شركاتها في محافظة النجف، كان ينام في مخيم الشركة ، لم يتذمر في يوم ما، انه يحاول بناء حياته، وعليه الاجتهاد، يسهر الليل يقرأ المخططات، برز من بين اقرانه مهندسا جيدا، يحاول ان يعرف كل شيء، ربما يرافق جماعة الميكانيك، وربما يساعد في اعمال الكهرباء، شاب طموح، قرر ان لايتخلى عن صوته.
وضع بطاقته الانتخابية في الصندوق وعاد مسرعا الى النجف، لم يسرق ساعة ليرى بها اهله، غدا لدينا عمل مهم( صب) احدى المنشآت المهمة وعليّ ان اكون حاضرا، عاد مع طريق النجف يبني الاحلام ويقرأها كما يقرأ مخططات المنشآت، يضع هنا عمودا، وهنالك جسرا، ساستقتل من اجل ان احصل على فرصتي بالتعيين، الديناصورات المتعفنة تملأ الوزارات، حتى ذمم البعض منها مشبوهة، لقد تسلمت ذرعة المواد وعرفت حجم السرقات التي تحدث، اما الاحالات فحدث كيفما تشاء، الاحالات الوهمية، والمكاتب الاهلية، اعمال النجارة مثلا: متر (البلايوود) في اعمال القالب الخشبي، السعر الحقيقي 13 الفا، وسعر الاحالة 70 الفا، هذه الديناصورات التي افسدت البلاد.
آه لو كنت مهندسا في الوزارة على ملاكها، كنت وضعت كل شيء في محله، وحاربت هذه الديناصورات المتحجرة، ديناصور متحجر هو المهندس المشرف، اتذكر ماذا همش لزميلي المهندس الذي رفض التوقيع على ( ذرعة المواد الانشائية)، حيث طلب الديناصور من زميلي ان يذرع المواد وهي في سيارات الحمل، وليست في الحقل على شكل مكعبات، فما كان من الديناصور المتحجر الا ان يهمش على كتاب الرفض بهذه العبارة: ( الله ايطيح حظك).
تأمل قليلا الارض التي تفصل النجف عن بغداد، اراضٍ شاسعة وممتدة، جميعها تصلح ان تكون مجمعات سكنية، بشركات عراقية، لولا وجود الديناصورات التي جعلت من المشاريع التي تحال على شركات عراقية مكلفة للغاية، يسرقون مناصفة مع تكاليف المشروع، آهِ ياوطني من يأكل من؟ انت ، ام ابناؤك؟، ومن اوصلك الى هذا الحال، اتهمنا بك بكل تفاصيلنا، اصبحت عراقيتنا تهمة اللصوصية التي تلازم العراقيين اينما ذهبوا، لقد قسمتنا ايديولوجيا قبل تقسيمنا جغرافيا، اصبحنا فيك قتلة، ولصوصا، وانفصاليين، ولم نعرف اقاليمنا بعد.
كان نشطا ومتفائلا، حتى الاسبوع الماضي، بدت اسعار النفط المتدنية، تثير قلقه وقلق عقد اجوره اليومي، اخبار ودعايات، الوزارة الفلانية انهت عقود مجموعة من العاملين والمهندسين لديها امتثالا لاوامر التقشف، والديناصورات باقون في اماكنهم، من يبني الوطن يستبعد تحت مسميات عديدة، ومن يهدم ويسرق ويخرب، يحتفظ بكل مميزاته، بما فيها الايفادات، هل من المعقول ان تكون اجرتي هي سبب غرق العراق بفوضى اقتصادية عارمة؟ وهؤلاء اليسوا السبب في سرقتي انا والعراق، اليسوا هم سبب شقائنا انا والعراق؟.
استيقظ صباحا كعادته بعد ان امضى ليلا طويلا مع المخططات، فوجىء بداية الامر، الوجوه مكفهرة، العمل متوقف، لاحيوية في المشروع، مهندس مصطفى، تناهى اليه صوت يحمل حشرجة تشرح الكثير الكثير، اعاد الصوت ذبذباته من بعيد، مهندس مصطفى، لقد انهوا عقدك مع الوزارة، سقطت الخرائط من يده، انتهى كل شيء بالنسبة له، ماتت جميع الاحلام، استيقظت الجراح، وراحت تضغط على رأسه بالصداع، انطلق الى ( الكرفان) حزم امتعته ولعن صوته المبحوح الذي وضعه في صندوق الاقتراع.