18 ديسمبر، 2024 11:26 م

أمي .. الجنة تحت أقدامكِ

أمي .. الجنة تحت أقدامكِ

أحبتني منذ لحظة ولادتي حباً أحسدُ عليه.. وبقيتِ تحبني.. ولم ترد لي طلباً أبداً.. علمتني: (النظافة من الإيمان).. قولاً وسلوكاً.. مثلما علمتني الصدق.. والأمانة.. والشجاعة.. وعلمتني أن أقول الحق ولن أتنازل عنه.. كما علمتني معنى الحب: ويعني (حب الله.. والوطن.. والعلم.. والخير).. علمتني مساعدة الفقراء والمحتاج.. وعلمتني الصداقة الحقيقية.. علمتني الأناقة منذ نعومة أظافري.. مثلما علمتني آداب الحديث.. وآداب الطعام.. وآداب الجلوس.. واحترام الآخرين ..

لم أسمعها يوماً.. لا هي ولا أبي.. يصرخان بوجهي أبداَ.. أو في وجوه أخوتي وأخواتي.. لم تضربني لا هي ولا أبي في يوم من الأيام.. ولا حتى في ساعة غضب.. مثلما لم تضرب لا هي ولا أبي أياً من أخوتي وأخواتي.. وعندما أمرضُ كانت لا تنام الليل بطوله.. وهي إلى جانبي يقظة.. تقدم ليً كل شيء.. وأي شيء من أجل أن أتعافى ..

علمتني مقولة (الجنة تحت أقدام الأمهات).. وماذا تعني هذه المقولة.. فكانت ثاني مقالة ليً أنشرها في جريدة الشعب في 18 حزيران العام 1958.. بعنوان (أمي .. الجنة تحت أقدامكِ).. وبدأتُ مشواري الصحفي ..

وعندما أصبحتُ شاباً.. وبدأتُ خوض غمار العمل الوطني والسياسي.. كانت (هي وأبي) يراقبني ويتابعني بشكل دقيق.. ويدفعاني إلى خدمة العراق (وطني).. فمن لا وطن له لا هوية له.. ولم يعلماني قط الطائفية.. لا بل لم نعرف الطائفية أصلاً.. بل علمتني حب العراق وحب الشعب كله.. وعندما اعتقلتُ خلال التظاهرات التي انطلقت في العراق لتأييد مصر ضد العدوان الثلاثي في 29 تشرين الثاني 1956 اتصلت فوراً بأبي.. وجاءت مسرعة إلى مركز الشرطة مع أبي.. ولم يخرجا إلا وأخذاني معهما.. بعد مناقشة وحوار حاد مع مدير المركز.. مؤكدة له إن القانون لا يمنحك حق اعتقال من لم يبلغ ال18 سنة (الرشد) لأسباب التظاهر السلمي ..

وعندما اعتقلتُ في أوائل تموز العام 1962 كسياسي.. ونقلتُ بعد انقلاب 8 شباط 1963 إلى سجن نقرة السلمان في صحارى السماوة.. كانت تزورني كل شهر برغم كل الظروف المعقدة.. وهكذا كانت تزورني في كل السجون التي انتقلتٌ لها (الرمادي.. بعقوبة.. وسجن بغداد المركزي).. وعندما أطلق سراحي في منتصف العام 1964 كانت أول مشجع ليً بعد أبي للالتحاق بدراستي.. وظلتْ ذلك المشجع ليً.. مؤكدة هي وأبي: إن شهادة البكالوريوس لم تعد نهاية المطاف.. مع تطور الحياة.. ففتحا عينيً لإكمال دراستي العليا ..

كانت صديقة وحبيبة لزوجتي.. فأحبتها زوجتي أكثر من أية امرأة أخرى.. بل كانت أمي تقف إلى جانب زوجتي إذا حدث خلاف بيني وبين زوجتي.. وهي إلام الوحيدة التي تجلب لزوجة ابنها أحسن الهدايا.. وأجملها.. وأغلاها.. بمناسبة وبغير مناسبة ..

وعندما رزقتُ بأبناء.. وتجدني أغضبُ عليهم تقول ليً وبحزم: (هكذا ربيناكم !!؟).. فأخجلُ من نفسي.. وأطأطئ رأسي ..

وخلال الحصار الاقتصادي الظالم على بلدنا كانت كل يوم تأتينا.. وتجلب معها الهدايا لأبنائي وحتى تجلب الطعام.. كانت شجاعة.. وذكية.. ونظيفة القلب.. وحنونة على الفقراء بشكل لا يصدق.. وكانت خلال أيام الحصار الاقتصادي بشكل خاص تؤمن وتطبق الآية القرآنية (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ..

وعندما جاهدتُ جهادي الأكبر.. وذهبتُ إلى ليبيا في أيلول العام 1997 أستاذاً جامعياً.. وتركتُ عائلتي في بيتهم ببغداد.. بقيتْ أمي أسبوعاً مع عائلتي.. برغم مرضها وشيخوختها.. لكي لا يشعروا بغيابي.. كما كانت تأتيهم كل أسبوع أو أقل.. وتتصل هاتفيا بهم يومياً للاطمئنان عليهم.. وكانت في كل زياراتها لا تعرف القيل والقال.. والابتسامة لا تفارقها.. وكانت خفيفة الظل ..

وبعد أقولُ: لستُ أنا الابن الوحيد لها.. حتى تقدم كل تلك التضحية ليً.. فهي أمٌ لعشرة أبناء (سبعة ذكور.. وثلاث إناث).. عاملتهم جميعاً نفس هذه المعاملة الراقية.. فتقدموا في الدراسة والحياة ..

وفي الثاني والعشرين من أيار العام 1999 أكملت رسالتها كأم مثلما أراد الله.. وودعتنا.. وهي مطمئنة على أبنائها وأحفادها ..

ماذا أقولُ : لهذه الأم الحنونة الطيبة المضحية الصالحة ؟ التي أفنت حياتها في تربية عشرة أبناء.. وتعليمهم ليكونوا قدوة في مجتمعهم ؟.. أقول :

ـ أُمّي .. يـَا بَحْرَ الخْيرْ وَالوَفَـاءْ ..

ـ يـَا نِعْمَة عَظِيمَة.. مِنْ رَبِ السّمَـاءْ ..

ـ دُعَائُكِ كانً .. سِرُّ تَوْفِيقِي .. ونجاحي ..

ـ وَرِضَا الله.. مِنْ رِضَاكِ ..

ـ يـَا طَوْقُ نَجَاتِي في الدنيا .. وفي الآخرة ..

ـ وَبأمر الله أنتٍ.. بَوابَـةِ دُخُولِي إِلَى الجَنَّة ..

ـ تبقين سيدتي : الشمعة التي لا تنطفئ ..

ـ وأنتِ في مثواكِ الأخير ..

ـ أمي .. وتبقى الجنة تحت أقدامكِ ..