لم يمت احد ، فعرض قطعة الارض التي اشتراها في مقبرة وادي السلام في النجف للبيع، امه ذات التسعين عاما، وابوه الذي تجاوز المئة عام، سابيعها غدا، وليمت من يموت، حزم امره وذهب الى النجف ليساوم السمسار على قطعة الارض، لو كنا مثل الهنود نحرق الميت لما تعرضنا الى هذا المأزق، ترى الى اين ستصل مقبرة النجف بعد مئتي عام، ربما سيزاحم الموتى الاحياء، او يزاحم الاحياء الموتى، حتما ستصل الى اطراف بغداد، وستذهب مقولة ابو العلاء المعري ادراج الريح: رب لحدٍ صار لحدا مرارا، انه ذنب الكونكريت، فهو الذي يحافظ على القبور شاخصة، واللوحات المرمرية ماثلة للعيان، اعطى لخياله العنان وراح يحتمل الامر من وجوه عديدة، ماذا لو صار الاحياء يبيعون بيوتهم قبورا للاموات؟.
تخيل ان في جوار بيته قبرا، وربما احاطت القبور البيت من كل جانب، ماذا يفعل، ستختلط الشواهد بيافطات المحال التجارية، ربما يحدث هذا بعد 300 او 400 عام، لاغرابة في الامر، لن تتفسخ الاجساد وتذوب مع التراب، ولن يكون عمر الخيام شاهدا على كوز ماء لانه يمثل ساقا لفتاة جميلة، تبقى قضية الهنود ماثلة امامه، وسيكتب وصية لابنائه ان يحرقوا جثمانه بعد موته، مدن كاملة ميتة ، احرقت بالنار، منذ الفتوحات الاولى، بقيت هامدة تحت الارض، لكنها استعمرت من جديد، قبور المشهورين تملأ الافاق منذ آلاف السنين، سابيعها وانهي الامر.
حدث نفسه كثيرا، حتى انه انتبه الى بعض الراكبين يطالعه، خفض عينيه الى الارض، واخرج سيكارة من علبة سكائرة التي يضعها دائما بيده اليمنى، لايريد ان يدعها وحيدة هناك في جيبه، تنفس الصعداء وغرق في حلم بعيد، اختفى بين طيات ايامه المشاكسة، لم يكن الامر مرتبطا بمقابر المسلمين وحدهم، الاديان السماوية تدفن جثامين اتباعها، اليهود والمسيح، اما قدامى المصريون فكانوا مشغولين بالتحنيط، اكتشفوا هذا عندما تركو الجثة على الرمال الحارة، فلاحظوا انها لاتتحلل، ومن ثم تطورت طريقة التحنيط لديهم، فصاروا يستخرجون المخ والاحشاء، ويتركون القلب بمفرده، فهو مركز الروح والعاطفة، ثم يسدون مسامات الجلد بدهان خاص، ومع هذا فقد استهلك الفراعنة الكثير من الاراضي لمقابرهم، وهي شاخصة حتى الآن.
لست فرعونا ولاهندوسيا، انا مسلم وعليّ الاحتفاظ بقطعة الارض، كلا سانفذ ما قلت واترك وصيتي بحرق جثماني، حتى التحنيط لايفي بالغرض، لست فيلسوفا
ولاكاتبا، انا انسان عادي لكنني اكره الزحام، ومن المؤكد ان زحام الموتى ثقيل، لن اكون عالة على احد، ولن اسبب المضايقة لاي انسان، سامضي بهذا الامر الى نهايته، ربما هناك بورصة لقطع الاراضي في المقابر، سارى السعر الذي يناسبني وليمت من يموت، هرع على اصوات الباعة المتجولين، ومنبهات السيارات، لقد وصل الى النجف، هبط واستقل سيارة اجرة الى المقبرة، وهناك بدأت المساومات وسط حشود القبور المتزاحمة، لم يوافق في بداية الامر على السعر، لكن السمسار اقنعه، وضع سيكارة في فمه والحقها بالثانية والثالثة ، تناول قدح الشاي، وشعر بتوعك مفاجىء، لقد نصحني الطبيب بالاقلاع عن التدخين، ولكن ماذا نقول، تمدد على الاريكة بعد ان اخذ الاذن من السمسار، لم يتسلم دينارا واحدا من ثمن الارض، اغمض عينيه وغط في سبات نهائي، بعد مرور نصف ساعة، ايقظه السمسار، لم يستيقظ، لقد وقع العقد، اتصل باهله من تلفونه الجوال، رد اخوه الاصغر، فاخبره بموت اخيه، جاء من جاء وتزاحمت الناس، وضعوا الجثة في التابوت وراحوا يبحثون عن ارض خالية ليدفنوه.