من المعلوم لدى الكثير أن التقليد في فروع الدين جائز، بل واجب على كل مكلف لم يبلغ رتبة الاجتهاد؛ والمراد هنا من رتبة الاجتهاد: هو الاجتهاد في الفقه وأصوله لا مطلق الاجتهاد. لأنه قد يكون المكلف مجتهداً في الفلسفة أو المنطق أو علم الكلام أو التفسير أو الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو الفلك أو النحو أو الصرف أو التأريخ أو علمٍ آخر عدا الفقه وأصوله؛ وفي هذه الحال يجب عليه التقليد في فروع الدين…
ومن المعلوم لدى البعض أن الاجتهاد يختلف في الشدة والضعف والعمق بين علم وآخر. بل إن هناك بعض الأمور في معرفتها لا تحتاج إلى اجتهاد معمق.
مثال ذلك تمييز المواد والأشياء كالأقمشة والأطعمة وبعض المعادن، كالنحاس والحديد والملح والذهب والفضة …. الخ.
وكثيراً ما تواجه المكلف شبهاتٌ موضوعية قد يعتمد في إحرازها على اجتهاده. فعلى سبيل المثال قد يعتمد المكلف في تحديد القبلة على اجتهاده وعلمه. أو مثلاً قد يعتمد المكلف على خبرته واجتهاده في تشخيص المعدن من حيث كونه من الذهب أو غيره؛ وعلى هذا المنوال أترك للقارئ المجال في استحضار الأمثلة التي تشير إلى هذه الحقيقة وهذا لا يعني أن المكلف في مورد الشبهة الموضوعية لا يجوز له الاعتماد على الغير في إحرازها؛ كما هو الحال بالنسبة للبينة وخبر العدل الواحد …. الخ.
ومن خلال ما تقدم يتضح أن الاجتهاد في فروع الدين هو من أصعب أنواع الاجتهاد لأنه يتطلب اجتهاداً في علم أصول الفقه. وهو أيضاً أي: ( الاجتهاد في فروع الدين من أهم الواجبات الكفائية)، وخير شاهد على صعوبته العدد القليل جداً من الأفراد الذين بلغوا بحق رتبة الاجتهاد لأن عدد أدعياء الاجتهاد أكثر بكثير من المجتهدين؛ وهذا أيضاً يؤكد صعوبة بلوغ الاجتهاد في فروع الدين. ويكفي في ذلك عشرات السنين التي يبذلها طالب العلم لأجل الوصول إلى هذه الدرجة العلمية الرفيعة. وقد لا يصل إليها لأن الاجتهاد نورٌ يقذفه في قلب من يشاء. فهل الأمر كذلك بالنسبة لأصول الدين؟
يعني هل إن الاجتهاد في أصول الدين هو بنفس صعوبة الاجتهاد في فروع الدين؟
كلا، بطبيعة الحال هو أقل صعوبة منه بكثير.
ولكن هذا لا يعني سهولته وتيسره لعامة الناس. ولا بد لي الآن أن أغض النظر عن بيان الأسباب التي جعلت من الاجتهاد في أصول الدين أقل صعوبة من الاجتهاد في فروع الدين لأن الأهم هو التعرض إلى موضوع التقليد في أصول الدين.
قلتُ قبل قليل إن لاجتهاد في أصول الدين أقل صعوبة من الاجتهاد في فروع الدين؛ ولكنه ليس سهلاً ومتيسراً لعامة الناس.
وكثيراً ما نسمع أن الاجتهاد في أصول الدين واجبٌ ولا يجوز التقليد في أصول الدين… وهذا الأمر صحيحٌ ولا غبار عليه.
ولكن وحيث أن الاجتهاد في أصول الدين ليس بهذه السهولة واليسر بالنسبة لعامة الناس إلى درجة العجز عن الاجتهاد في أصول الدين، فماذا يصنع عامة الناس في حال عجزهم عن الاجتهاد في أصول الدين؟
وقد تناول هذه المسألة السيد الشهيد محمد الصدر (قدس) في بعض مؤلفاته، استطاع من خلال فكره الفذ وعلمه النافع أن يعالج المسألة علاجاً تاماً بحيث تبرأ به ذمة الفرد تجاه أصول الدين.
ولأجل الفائدة لا بد أن استشهد بما كتبه الشهيد محمد الصدر (قدس) في تعليقته على الفتاوى الواضحة، حيث جاء فيها ما نصه:( (1) الفرق الحقيقي: هو أن التقليد المنهي عنه في القرآن هو التقليد في العقائد الفاسدة. والتقليد الواجب: هو التقليد في الفروع الشرعية. ويبقى أقسامٌ أخرى من التقليد:
أولاً: التقليد في رأي غير مربوط في الشريعة، وهذا جائز حتماً.
ثانيا: التقليد في العقائد الصحيحة، ولكن بحيث يُوجب رأي الآخرين يقيناً كاملاً بالحق. وهذا لا أشكال فيه. والظاهر أنه يمثل اعتقاد أكثر العوام، فإن المهم هو اليقين القلبي بما هو حق وهو حاصل.
غير أنه لا ينبغي أن يُفهم أنه تقليد لشخصٍ معين، بل لاتجاه كامل، براهينه كاملة، وإن لم يعرف الفرد تفاصيلها.
ثالثاً: التقليد في العقائد الحقة على غرار التقليد في الفروع. وهو غير مجزٍ إن لم يُوجب اليقين باليقين. وأما إذا أوجب اليقين فإجزاؤه وإن كان راجحاً إلا أنه مخالف للاحتياط، ومقتضى قاعدة( النجاة من العقاب المحتمل) أن يطور مثل هذا الفرد اعتقاده إلى المرحلة الثانية السابقة على الأقل.
وبالطبع فإن من الأفضل ــ بشكل أكيد وشديد ــ اطلاع الفرد على البراهين في العقائد ولو بشكل مبسط. ولا أقل أن يكون أكثر واضحاً، يشهد الكون كله بأنها هي الحق المبين. ) انتهى
اعتقد أن هذه التعليقة قد تناولت الموضوع من أهم أبعاده وهذا واضح لمن أمعن في قراءتها ولكي تعمَّ الفائدة أيضاً نترك الكلام للسيد الشهيد محمد الصدر(قدس) ، لأنه تناول موضوع التقليد في أصول الدين بالنسبة لعوام الناس الذين يتعذر عليهم الاجتهاد في أصول الدين فيكون تكليفهم هو تحصيل الاطمئنان في أصول الدين.
فقد جاء في الجزء العاشر من كتاب ما وراء الفقه ما نصه:
(وإنما التقليد خاص بفروع الدين، وما يخص الفتاوى العملية. وأما شموله لأصول الدين فلا. بل لابد لكل فرد أن يكون مجتهداً في الاعتقاد بهذه الاصول. فان الاجتهاد ضد التقليد، لأن الفرد اما مجتهد واما مقلداً ولا ثالث لهما. فاذا حصل المنع من التقليد تعين الاجتهاد.
مع العلم إننا اذا التفتنا الى الاكثرية الكاثرة في المجتمع من متوسطي الثقافة والعقلية والمتدنين فيها، يستحيل عليهم عادة ان يدركوا او يستوعبوا البراهين على اصول الدين لكي يكونوا فيها مجتهدين ومحققين. بل هذا متعذر عند الأغلب بأي من مقدماته وتفاصيله ناهيك عن الجميع.
فكيف الحال بمن لا يقرأ ولا يكتب، ولم يمر على القرآن الكريم ولا السنة الشريفة ولا المصادر الرئيسية في الدين. ونحوهم بعض النساء العاطلات اللاتي لا يفهم منهن الكلام ولا يعرف لهن مرام.
ومثل هؤلاء الناس عاجزون جزماً عن الاجتهاد في أصول الدين. وتكليف العاجز مستحيل عقلا. اذن، فتكليفهم بذلك مستحيل. اذن، فكل من الاجتهاد والتقليد في أصول الدين منسد بابه في حقهم. مع العلم إنها واجبة عليهم اجمالا، ولا يحتمل سقوطها عنهم لأن ذلك يعني خروجهم عن الدين وهو ممتنع. فما العمل بعد انسداد كل الاحتمالات.
وجواب ذلك: إن الشيء الذي يمكن التنزل عنه نظرياً في هذا الصدد هو وجوب الاجتهاد مع العجز عنه اكيداً، إلا أن هذا لا يعني جواز التقليد. بل يمكن أن ننتقل إلى حالة ثالثة هي الاطمئنان بصحة اصول الدين والاطمئنان حجة كافية ومعتبرة شرعاً. من أي كان سبب حصوله. واما إذا لم يحصل للفرد الاطمئنان بأصول الدين فهو مما لا سبيل الى الاعتراف بإسلامه.
فان قيل: كيف يحصل الاطمئنان للفرد مع عدم وجود المقدمات النظرية الكافية المسببة له. او قل كيف يحصل ذلك مع عدم الاجتهاد والبحث النظري عن صحة تلك المفاهيم.
قلنا: إن كان الاجتهاد والبحث النظري ممكناً، فهو المطلوب. ولا يكون الاطمئنان مقبولا ولا مجزياً بدونه. الا اننا نتكلم الان في فرض العجز عن الاجتهاد. والتكليف مع العجز متعذر. اذن، فالعامي لا يطلب منه الاجتهاد ولا يجزئ منه التقليد، وانما يجزئ منه الاطمئنان.
وهذا يمكن ان يحصل للعامي بأسلوبين:
الاسلوب الاول: ما يكون من العقائد مقدماته واضحة ووجدانية الى حد تكون حسية او قريبة من الحس. فيمكن القول انه لا يعذر فيها احد. ولذا يذم في القرآن الكريم من يكذب بالآيات في عدد معتد به من الآيات القرآنية. والمقصود بالآيات هنا الدلائل الواضحة على اصول الدين كوجود الله وتوحيده، وعدله وكرمه.
وبالرغم من انه يمكن القول ان المقدمات المهمة او الرئيسية لكل اصول الدين واضحة ووجدانية وليست معقدة. فلا اقل ان نقول: ان المقدمات المهمة لثلاثة منها كذلك جزماً وهي اصول الاسلام: التوحيد والنبوة والمعاد.
فوجود الله معلوم بخلقه. وتوحيده معلوم من شهادته به. والنبوة معلومة من اعجاز القرآن وتواتره. والمعاد معلوم بنص القرآن والتواتر ايضا. وهذه العبارات وان كانت نظرية لا يفهمها الاكثر، الا ان مضمونها العرفي واضح وقريب للأذهان.
الاسلوب الثاني: وهو خاص بمن كان في المستوى المتدني بحيث لا يمكنه حقيقة حتى ادراك المستوى الاول الواضح.
عندئذ يمكن الاكتفاء منه بمجرد حصول الاطمئنان. ويمكن ان يحصل الاطمئنان لأي فرد بمجرد الالتفات الى التسالم على صحة اصول الدين:
اولاً: انها مما آمن به الملايين من الناس جيلا بعد جيل.
ثانياً: انها مما آمن به الباحثون والمفكرون والعلماء.
ثالثاً: انها مما آمن به الصالحون من الناس والاتقياء الذين لا نعرف منهم ولم يصدر منهم الا الخير والصلاح. كالمعصومين(ع) وجملة الصالحين من الناس.
رابعاً: ان الفرد يلتفت الى ان مفاهيم اصول الدين مبحوثة مفصْلا وكثيراً في كل الاجيال في كثير من الكتب. ونتائجه مسلمة الصحة لدى الجميع. اذن، فهو يعلم ولو بالإجمال بصحتها وهو كاف له.) انتهى.
وبعد المقارنة بين ما جاء في التعليقة على الفتاوى الواضحة وما جاء في الجزء العاشر من ما وراء الفقه نلاحظ أن هناك ترابطاً وثيقة بينها، بحيث يُكمّل بعضها بعضاً.
فالسيد الشهيد محمد الصدر(قدس) أشار إلى المستوى الثاني من التقليد الذي ينسجم مع الاطمئنان.
إن المستوى الثاني من التقليد يختلف كثيراً عن التقليد. لأن التقليد بحسب ما هو شائع عند الكثير هو التقليد على غرار التقليد في فروع الدين.
أما المستوى الثاني من التقليد فهذا ما أشار إليه السيد الشهيد محمد الصدر(قدس)في التعليقة، وهو ليس تقليداً لرأي واحد من المجتهدين بل هو تقليد لاتجاه كامل؛ وهذا يطابق إلى درجة كبيرة ما ذكره (قدس) في الجزء العاشر من ما وراء الفقه. ولا حاجة إلى الإفاضة أكثر في هذا الموضوع. بعد الذي سمعناه من درر الكلام الذي سطرته أنمال أعلم الأعلام، الشهيد محمد الصدر(قدس).
وقد اتضح الجواب عن السؤال الذي جعلته عنواناً للمقال، أقصد: متى يجوز التقليد في أصول الدين؟.