( بين نينوى وعاشوراء )
أتحدث هنا في هذه الرؤيا عن مدى تأثير شكل الحرف حين شاهدتهُ لأول مرة مرسوماً بلون الأحمر في كلمة ( دار ) عندما وزعَ علينا المعلم القراءة الخلدونية لأول مرة في الصف الأول الأبتدائي ، ومن لحظتها تشكل الهاجس الهندسي الغامض في مخيلتي عن تلك الانحاءات الحادة والمتجاورة بين بعضها لتكون شيئا نؤشر به لمسمى كي نعرفْ ماهيته وشكله ومكانه.
هذه الصور المختلفة للحروف في استقامتها واعوجاجها فتحت أمامي افاقا لتخيل الطاقة والفعل في تلك الخطوط وكأنها تفجر في اعماقي أشياء لا تحصى تبدأ من المعرفة وتنتهي بالأحساس اللذيذ لشيء ما أو الحزن أو الرغبة بالتعبير عن المكنون الذي يولد بغرابة في أحساس بدائية مثل الشعور بالحب والحنان والغضب وغيرها ، وكان الدافع بالتعبير عنها يكبر ويزداد حماسا كلما اكتشفنا أسرار تلك الحروف ودلالاتها.
وكبرت روح الحرف معنا كلما كبرت أجسادنا وتفتحت أذهاننا صوب أشياء لاتحصى في العالم الذي يفتح جهاته الجديدة صوبنا عام بعد عام مع تغير معرفيات النصوص وكتب القراءة التي كانت توزع علينا كل عام دراسي جديد عندما دخلت اليها معارف وقصص ومقالات وقصائد وتجارب لفلاسفة وكتاب ، استطاعوا بالحروف فقط وصياغة معناها الى فلسفات ومعارف وكتب أن يؤسسوا لهم مجدا تفتخر فيه البشرية وبلدانهم الى اليوم . وأبتداءً من الخامس الابتدائي عرفنا الجاحظ وسقراط والخوارزمي وابن الهيثم والرازي . وحين دخلت الفيزياء والكيمياء اوالاحياء الى حياتنا بعد الثاني المتوسط عرفنا نيوتن وباسكال وغاليليو ومندل ودارون وغيرهم .
وأعتقد أن احساسي بغموض الحرف وفعله أبتدء بشيء من الانتباه والاهتمام والمشاعر الخفية والغامضة لفنتازيا احسستها بعيدة وشهية ولكني انتمي اليها ، ذلك عندما درست في الصف الاول المتوسط كتاب التأريخ الذي كل مادته وفصوله المدرسية تتحدث عن التأريخ القديم منذ العصر الحجري وحتى انهيار ممالك سومر وبابل واشور وأكد الى غزو الفرس والرومان والأسكندر المقدوني والاقوام الجبلية الاخرى .
وربما كان الحديث في بعض فصول الكتاب عن الحروف المسمارية أثر في فجر هذا الغامض الذي يسكنني أزاء الحرف ونشأته وتلك الفنتازيا اللذيذة التي كنت احسها تسكن اللحظة التي تمسك فيها أصابعي الورقة وتصبح في مواجهة الخطوط المستقيمة والنحيفة ، ليدفعها الغامض المبتهج بطقوس اللحظة لامتلاك خيال هيلامي لفنتازيا من سعادة جمع هذه الحروف في كلمة تفضي الى خاطرة أو كتابة أنشاء أو بداية الأحساس بكتابة الشعر أو سطور غرامية لصبية مثلي تمر منفوشة الشعر ، ولكن خديها احمرين كحب الرمان . وتأصلَ ذلك العشق الغامض مع ثلاث طقوس وأمكنة حاولت الجمع بينهما من خلال هذا الاحساس الغريب ، ولكن بعد أن أسرد بدءا طويلا لترحال خيالي مع الحرف السومري النشئة والاحساس والخلق..
سأمضي بعيدا مع الحرف وسومريته التي حملت غموض خليقتها وأصالتها واحترقت حين احترقت أور وذابت بين الأقوام الجديدة الغازية والمهاجرة واحدة من ارقى الحضارات التي عرفتها البشرية في بداية النهوض المعرفي المدني لأنسان الارض.
هذه الأمكنة التي يمد معها الحرف المسماري خيوط المودة الفنتازية ، اكتشفتها أنا منذ صباي عبر ثلاثة محطات .
الأولى :السفرات المدرسية التي كانت مدرستنا تقوم بها الى مدينة أور الأثرية ، والرحلة ترتبط بذاكرتي بصورة الباص الفالفو الخشبي الذي ينقلنا وسائقه العجوز الذي لاينفك من الغناء حين يصل محطة قطار أور القديمة ليغني بصوت عال : ايها الريل لاتصرخ …أخشى أن توقظ السمراء .
وفي هذه السفرات الاسطورية وقعت عيناي لاول مرة على الحروف المسمارية التي كانت مكتوبة على طابوق المعابد والزقورة وما تبقى من قصر الملك شولكي وبيت المحكمة .
كتابات توقظ في الروح أسئلة التفكير عن شكل الحرف وعطره وقدرته على صنع كل هذا الارث والمنجز المثير ، حيث كان مدرس التأريخ يشرح لنا ونحن جالسون على سلالم الزقورة
عن عالم يفتح افاق الوصول الى نشوة الحجر والطين وهو يلامس الحرف ليشيدون سوية هذا الارث الهائل من الملاحم والاساطير والمعابد ونظم السقي وفنون النحت والموسيقى والكتابة الادبية وصياغة الحلي وصنع الاكيال وكتابة نُظم التشريع الأولى.
المحطة الثانية في صباي كانت لمشاهدتي الاولى لأثار النمرود ونينوى في اول سفرة طويلة في حياتي ضمن نشاط كشفي في مدينة الحضر ، حيث زرنا الاثار الاشورية وشاهدت في الرُقم الطينية والثيران المجنحة وما حوته بعض الواح مكتبة آشور بانيبال من أدبيات تلك الحروف وهي ترسم بحيرتها ودموعها ذات المغزى لواقع المأساة التي انقلت من أور الى نينوى ، لتحترقان معا بسبب نشوة المجد وتحول الحرف من قصيدة وتلاوات دينية الى سيف يتمنى ضم المزيد من البلدان.
حروف الكتب في مكتبة بانيبال هي من جمعت حسي الصبياني الشهي يوم لامست رعشة أصابعي الحروف المسمارية المكتوبة على الآجر المفخور في ما تبقى من شواخص أور الأثرية.
جمعت ذاكرة بأنيبال الأشوري بمواهب ملك سومري مثقف مثل شولكي الذي يكتب الشعر ويعزف بأكثر من أربع آلات موسيقية ، هو جمع للفتنة المتقاربة بين تأريخين ، وتسكنهم فنتازيا حرف أقف عنده طويلا وأتامله في هاجس صباي ويكبر معي ليشكل جدارا كبيرا في معبد ثقافتي .
الملكان اللذان تجمعهما ثقافة اللوح التي اندثرت لآف السنين ثم ظهرت على ايدي المنقبين ومعاولهم ليبدأ العالم يعيش تأثيرات هذا الكنز الحضاري من المعرفية والفن والمقارن الالهوتي وليكتشف أن جميع المدونات السماوية منذ ازمنة الحوليات والبرديات والتوراة في كل عهودها والاصحاحات الانجيلية وحتى القرآن الكريم ، كانت هناك القصص والاشارات الواضحة والمقارنة التي تجمع نصوص تلك المدونات الاثرية بكتب السماء ، وقارئ الاساطير السومرية والبابلية والاشورية سيكتشف هذا .
هذا الكشف هو من ايقظ فيَّ الهاجس الثالث عندما تمعنت جيدا في الباب الذهبي لمرقد الأمام الحسين ( ع ) وقرأت عبارة الاهداء من شاه صوفي أو قاجاري ، لا أتذكر ، وبعدها رحت اطالع جميع الاهداءات المكتوبة في مقتنيات المرقد الثمينة والمخطوطة بالخط الكوفي والفارسي والرقعة ، فأيقظت الحروف معي شهوة التواصل الغامض مع المكانين ( زقورة أور ومكتبة بانيبال ) وهذا المكان الملتمع ذهبا وقدسية وزحاما من زائرين اتوا من شتى الامكنة تدفعهم فطرتهم وبراءتهم وعشقهم لصاحب المكان لطلب الشفاعة.
وكم تمنيت أن أحمل رجفة تلك الاصابع التي دون فيها الانسان العراقي القديم حروفه المسمارية على الواح الطين والحجر وبوابات المعابد وقصور الملوك لأكتب شفاعة ونذرا اتمناه على زاوية الضريح طالبا منه النجاح بعد ان كنت مكملا في درس الرياضيات في الدور الأول ، وكانت أمي خلفي تهمس لي:
أطلب من ابي عبد الله أن يزيل عنكَ محنة الحساب وتذهب مع ابن الجيران الى صف آخر و لا تجعلني محرجة أمامهن.
همست للضريح : ارجوك ايها الشفيع ، لا تحرج أمي…!
جمع الحروف في مكان يؤثثه الصاج والعاج والذهب والسجاد الشيرازي الثمين ظل يلازم روح المخيلة ويسجل في فواصلها الكثير من المواقف ، وأي موقف ومحطة لما بعد تلك اللحظات التي كنت اشعر فيها باللقاء الروحي لتلك الأمكنة الثلاث ، أنما هو نتاج ثقافة ذلك الاحساس وبيئته ، وفي كل ما كنت اعيشه وأدونه عبر مراحل المدرسة والجندية وتكوين العائلة وكتابة الشعر والقصة والرواية والخاطرة والمقال ورسائل الحب.
لهذا كان الحرف يعيش معي ، يتوأم الهواجس في لحظاتها ، ويمضي ليؤرشف بالقلم أو أصابع الكيبورد كل تلك اللحظات التي سجلت فيها فواصل ما كنت اسجله في حياتي ، كتبي وأوراقي والمخاطبات الرسمية والرسائل التي كنت أكتبها لأصدقائي الجنود نيابة عنهم عندما يشدهم الحنين الى ذويهم وزوجاتهم وحبيباتهم.
وكنت أشعر أن كل الرسائل التي كنت اكتبها ، كان الحرف المسماري يلون هاجسها ومشاعرها حتى وهي تكتب بحروف عربية بليغة أو بلهجة شعبية حين يدفعني الحنين لتذكر وجه امرأة ما واكتب لها قصيدة عامية ، حيث ( هنا ) يقرب ضوء الحرف المسماري من روح الجملة الجلفية التي تبدو قريبة اليه من الجملة الفصيحة كثيرا.
أبتعد عن مناخات اللقيا بين الأمكنة وحروفها ومشاعرها وطقوسها ، وأعود الى الحرف المسماري ، أعيد تأمله ، وأنتشي مع تواريخه وخواطره وتفكيره ، وأمضي لأسجل في التفاصيل عالماً من أخيلة ذكرياتي وطفولتي وموهبة صباي وثقافتي.
أدرسه بطريقة أفترضها أنا وأتخيلها ، لأبتعد عن كل ما تكتبه الدراسات العلمية والمحكمة والاثارية ، لأتخذ من خط السير في محاذاتها حتى أكتشفها عن قرب حتى لا اشعر أني اكتب افكارا لا تمت بصلة لواقع الحرف وتاريخيته.
لهذا تسجل رؤيا الحرف المسماري هنا ، موسيقى ما كان يشعرني لحنه بغموض وشهوة تخيل ورسم عوالم الصورة لحكايات وأساطير ممتعة كانت تجعل من ليلي في صباه وطفولته ليلا تأمليا ومجيدا……..!
هذا المسمار العالق بشفاه الطير ، والذي يتماسك وليبقى معناه ازليا حين يشوى في النار ويتصلب.
ينتهي الحرف السومري كما ينتهي شكل المسمار ، وهو حرفٌ يفكر بهاجس جنوبي ، ولكنه مع الطين والحجر البدء المعرفي والتدين ونشوء الحرف ، وتم أكتشافه لأول مرة يوم ولدت حاجة الأنسان ليتصلَ مع السماء ، لهذا أكتملت غايته في مرحلة واحدة ولكن التعبير الجمعي وتطور الشكل والدلالة والمغزى مرَ بأكثر من شكل ومرحلة ، وحتى في شكل الحرف المسماري الصوري كانت أنحناءته الحادة موجودة وبشكل مدبب ، وكأنها نهاية رمح أو سهم ، وكأن الأنسان أراد في هذه النهاية أن يصيب كبد الحقيقة فيما تفترضها مخيلته في هاجس الكتابة للوصول الى قناعات عبر اسئلة وأجوبة معبر عنها بالتوثيق، وربما من أجل هذا أستعجل الأنسان السومري أختراع الحرف وتطوير مراحله الكتابية. ويبدو أن ولادة الحرف وشكله الذي ظهر للعالم ليكون شارة البدء للذاكرة المعرفية لتكون الخطوة الحضارية الاولى على الارض ، فكانت بداية التفاهم الحقيقي بين الانسان والطبيعة والتي اقترنت بسهولة الكتابة بين نهاية اول قلم للتدوين وهو حجر الصوان ، واول لوح كتابة وهو الطين.
أتخيل العلاقة الروحية بين الحرف المسماري والطين ، فهي علاقة فنتازية بأمتياز أثمرت عن ولادة ارهصات لاتحصى بين الشعر وتأليف الاساطير ومدائح الالهة وكتابة الاغاني والتعاويذ ومعادلات الرياضيات وطلاسم التنجيم ورسائل امراء السلالات الى ولاتهم في المدن الاخرى.
هذه الفنتزيا بين الحرف ورائحة الطين ايقظت فصول حلم اللغة كما يوقظ العشق في القلوب الحنين ، ولقد شكلت هذه المودة بين مقدمة الحجر وخد الطين الامتداد الحضاري الرائع لحضارة بلاد مابين النهرين ( ميزوبوتاميا ) ليتأسس مجد السِر والمسلات وملوك الجهات الاربع ومكتشفي رحلات الخلود .
فنتازيا موغلة بأزمنةٍ تحمل عطر اجتهاد البشر في اكتشاف الحقائق الجديدة ، لتعيش لحظة المقارن الساحر بين تفكير الباطن والظاهر ولتنشيء روحها ومخيلتها واجتهادها الفطري براءة الاخيلة البعيدة ولتنشأ لها في العلى عروشا للآلهة واقبية فردوس يسبح في وهم صولجانات الملوك وتيجانهم حتى وهم يرحلون موتى مع نذورهم البشرية وضاربات قيثارات الموسيقى وجرار الخمر والماء والخراف المشوية والمكاحل وكؤوس النذر النحاسية التي جُلبَ معدنها من منطقة مَكْانْ ( سلطنة عُمانْ حاليا ).
وعي لإشكالية الحب بين الحرف والطين وضعت في شبابيك الخيال أسئلة التأمل لما تشاهد العين لتبتكر المكان القصي للعيش الرغيد والخالد فكأن أن كتب الحرف المسماري ملحمة الطوفان والخلود والرؤى الاخرى التي ابتكر معها الشكل الهادئ والخيالي والساحر للمكان الازلي ، فكانت دلمون من بعض نتاجات اخيلة الحرف السومري وعقله الفنتازي الذي بدأ يبتكر الرؤى ويجسدها اشكالاً وملاحما وأساطيراً مكتوبة على شكل قصائد ومدائح وتعاويذ وأغاني.
لا أدري لماذا أشعر أن الحرف عندما يولد بشكله الأول انما يريد أن يثبت وجودا خالدا له بين الذاكرة ومقدمة القلم الذي يدونه ، هكذا بدا تشكيل فنتازيا الحرف في مخيلتي حتى في قراءات دلالات ما كان الأنسان يرسمه على جدران الكهوف او ما ينحتهُ من تماثيل بدائية للآلهة او نساء يحملن على صدورهن نهود كبيرة.
فالحروف هي كائنات حية تتحرك بين عقولنا واصابعنا ، مثلما تتحرك الموجة على سطح النهر ، وهي تنطق بخيالات وأوهام وحقائق وقصائد ومعادلات .
أذن هو ( الحرف ) يمثل الرائية الكونية عبر الفعل ورد الفعل والتعبير عنها منذ الإيماءة والإشارة وانتهاء بالكتابة الحروفية التي ما زالت بالرغم من تطور وسائل الاتصال ( السوشيل ميديا ) والانترنيت ، لكنها لن تتمم رسالتها العولمية الجديدة دون الكيبورد وحروفه .
فكانت اللغة المتجمعة في معناها من دلالات حروفها تمثل الوجود الحضاري بكله ، ولولاها لتحولنا الى جراد يلتهم بعضنا بعضا ، لأن اللغة عندما تختفي يولد القحط ، وتجف العقول ونعود ادراجنا الى الحياة التي لم تكن مهجنة أنما حياة غاب وكهوف وسيوف حجرية ومصائد لدببة وخيول وارانب وثعالب.
لقد أستجاب الحرف لفعل المخيلة الأنسانية بشكلٍ أيجابي ، وكان لتلك الايجابية الأثر الكبير في التحولات الاجتماعية التي نقلت الانسان من الكهف المظلم الى فضاء القرية ثم المدينة ، ولتبدأ الحياة الانسانية مرحلة رقي نحو الافضل حيث تعودت على انماط وسلوكية مجتمعية حديثة مع متغيرات الذهن وابتكاراته التصاعدية التي انتهت الى عصر التقدم التكنلوجي هذا.
ولأن اكتشاف الحرف طفرة حياتية في متغير النمط السلوكي في العيش أورثت للعالم الاداء التقني الذي كان بدائيا وبسيطا ثم الى أن وصل الى مركبات الفضاء وتطور عالم البرامجيات والمعلوماتية ووسائل الاتصال.
فنتازيا بدأت مثل طقوس غرام بين عقل يتأمل وعليه أن يفعل شيئا أزاء جبروت وهيبة وسطوة ما يراه ويعيشه ، رهبة الزرقة التي تعتليه بلا نهايات ، البرق والرعد والمطر ، ايقاع بريق النجوم ومواعيد اشراقات القمر ، الطوفانات والزلازل وهيجان البحر ، سطوة الريح وجمال الشفق والغسق والعطر القادم من الوردة .
أشياء وظواهر وتمثالات خلقت الظن والشك ورغبة الاكتشاف في أحساس مثير وغامض قاد الانسان ليذهب الى ما يجعله سعيدا وراغبا بهذه الحياة الجديدة التي تطورت فيها حياته من عالم بدائية الاكل النيء ، الى الشواء والقمح ثم الموائد.
هذه المتغيرات كان يلزمها وسيلة تواصل ومخاطبات ، وربما الحضارة السومرية أظهرت الصورة الرائعة لهذا التواصل من خلال الأداء الجميل للحرف وتعبيراته من خلال ربط الحرف بالأدراك البشري ــ الذهني والعقلي لتكتشف الكثير من ابداعات الجمال مثل طقوس العبادة الاولى والشعر والبيع والشراء وتنصيب الملوك والامراء وكتابة البريد الرسمي على الواح الطين والتعامل مع الافلاك والنجوم والقوانين التي دونت على مسلات الحجر لتكون البدايات الاولى للدساتير .
الحرف المسماري حرف اكتشفه اهل سومر الذين استوطنوا جنوب بلاد الرافدين والتي سميت في العهد القديم ارض شنعار وبعض مناطق اعالي الفرات .
نستطيع أن نحكم على الازمنة التي عاش فيها السومريون انها ازمنة واعية وذات حضور تأريخي مستوح من نمط تفكيرها بأكتشاف طرائق الحياة الجديدة ، وأن الذي دون على الالواح والمسلات إنما انعكاس لطفرة عقلية عالية الاداء والتفكير وخصوصا في تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمشاعر الميتافيزيقية فيما يخص الموت والحياة والتفكير بالعالم الاخر وتخيل موجوداته من الهة وامكنة فردوس وغير ذلك.
أظن أن الذاكرة السومرية وسط هذه الهالة العظيمة من المنجز المتطور الذي اظهرته الالواح ومسلات الحجر تمتلك افاقا واسعة ربما تظهر لنا بعد ، وما شهدناه سوى خمسة في المئة اظهره لنا السير ليوناردو وولي في كشوفاته الاثرية في مدينة أور في عشرينات القرن الماضي ، فيما تؤكد الدارسات الاثارية والمسوحات الحديثة أن خمس وتسعين بالمئة من هذا الاثر المدهش لم يظهر بعد.وحتما سيرينا الحرف السومري الكثير من فنتازياته الرائعة في انسيابيته وبروزه الحاد ، وربما يكمن خلفه أرث يأخذ منا لُبْ الدهشة ويرينا عالما فنتازيا يقترن بالسحر ويوتيبيا وما تملكه دلمون من صفات لتكون هي ( الجنة السومرية ) حيث وضع لها افقا من المسافة الجغرافية المتخيلة ليكون موقعها في بلاد مملكة البحرين الحالية حيث زرقة مياه الخليج ومستعمرات اللؤلؤ وآثار واحات شاسعة من غابات النخيل والسدر.
هذا الحرف الذي حقق للشخصية السومرية يقظتها من سبات عصور بدائية وربما انعكس هذا على شعوب المنطقة كلها ، وهذا ما يتفق تماما مع مقولة نوفاليس :(( حينما نحلم إننا نحلم ، فأن اليقظة تمسيَّ وشيكة )).
لقد ايقظ الحرف الشعوب من غفوة بدائية طال امدها وسنناقش هنا تأثيرات الحرف من خلال مقولة للشاعر المكسيكي اكتافيو باث الحائز على جائزة نوبل والقائلة :
(( تشهد الشعوب التي تحيا في طور النمو شيئا مماثلا ، إذ تبرز لها كينونتها السؤال دوما . ماهي ماهيتنا هذه ؟ إلا أن التاريخ غالبا ما يفند أجاباتنا عن هذه الاسئلة فيما يدعي ( عبقرية الشعوب ) التي هي مجموعة من ردود الأفعال االتي يستثيرها باحث معين))
وعبر هذا الرأي أضع الحرف السومري في خانة الرائية الأولى التي صنعت عبقرية الشعوب منذ أن لامس خد الطين وحتى الزمن الذي توقف فيه التعبير برسمه ومعناه وتحولت الحروف الى صور وابجديات ولغات أخرى.
روح الحرف هي مزيج من روح الانسان والطبيعة التي تجاوره ، وربما البيئة الطبيعية هي من توحي اليه ليخلق ويخترع ويكتشف التعابير الجديدة التي يمكنه التعامل بها مع المؤثرات التي حوله وأعتقد أن جميع الحروف التي اخترعتها المجموعات البشرية الاولى في العراق السومري والاكدي ومصر الفرعونية والشام الفينيقي والكنعاني والاوغاريتي والجزيرة والشمال الافريقي الامازيغي واليمن السبئي والحميري واليونان الاغريقي وأيران الفارسي وفي الصين والهند وغيرها تمثل في محصلتها حقيقة واحدة أن الحس البشري وطبيعته وسلوكه وانتماءه موحدا في كل بقاع الارض ، لكن التعابير اختلفت بسبب بًعد المسافة واختلاف الجغرافيات وطبيعة التكوين الاجتماعي والجسدي ايضا
بين هذه المكتشفات اللغوية رسم الحرف له وجودا وقدرية حزينة ربما اضمحلت ليس مع تطور الكتابة وحروفها ، بل مع النهايات المأساوية التي انتهت اليها سلالات اور بعد الغزو العيلامي وأحراق مدينة أور في عهد آخر ملوك السلالة الثالثة آبي ــ سين الذي مات منتحرا ، في قدرية تشابهت واحدة مثلها عندما احتراق نينوى وانتحار ملكها الاشوري ساردانبال محترقا هو وجواريه واهله في قصره.
فنتازيا المآسي بين الحرفين السومري والآشوري تخلق في روحي تقاربي بين المراثي التي دونت فيها قصائد النواح العاشوري الذي ولد بعد مأساة قتل الحسين ( ع ) وأهله في واقعة الطف الشهيرة.
المقارب الصوري في صورة الحزن التي يعبر عنه النواح السومري والآشوري والعاشوري يجمع الحزن في الصور التالية التي تنشدها فنتازيا القدر الدامع للحرف الذي كتب المراثي الثلاثة في احتراق أور ونينوى وخيام الحسين ع وبيته في ارض كربلاء.
بين الاحتراقات الثلاثة والتواريخ الحضارية الكئيبة لما حدث في الامكنة الثلاثة أتخيل صورة الحروف في حزنها في ثلاثة مواقع ( الألواح الطينية التي كتبت عليها ملحمة جلجامش التي انتهت بحزن أنه لم يحصل على ما يديم فيه الخلود ويجعله ابديا مثل الالهة ، وكاتب الملحمة مبدع مجهول ، والحوليات الاشورية ومدوناتها التي كتبت على حجر الكلس وهي تحكي النهاية المفجعة لساردانبال وهو يحرق نفسه وكل اهل قصره ، والراوي هو مجهول ، فيما يظهر لنا الكاتب المعلوم في المأساة الثالثة التي دونها أبو فرج الاصفهاني صاحب الاغاني في كتابه الشهير مقاتل الطالبيين.)
الرؤيا الثلاث تم التعبير عنها بحروف مختلفة ، السومرية ، الآشورية ، العربية يعبر عنها جفن دامع لذاكرة واحدة ، لكني أجد في الحرف السومري رابطا لكل هذه الفنتازيات عبر دلالة الدمعة في تشكيل الكلمة من خلال كتابتها بمقدمة مدببة للمسمار حيث الوجع والفجيعة والجرح والدم.
تلتقي النهاية الحادة للمسمار مع الحافة المتشظية لنصل السيف ، فعليكَ أن تتخيل علاقة الحرف بالجرح والطعنة ، وعليك أن تحمل خاطرة هذا المسمار الى خاطرة السيف وتجمع اللحظة التي احترقت فيها أور بتلك اللحظة المؤلمة التي احترقت فيها خيال أهل الحسين ( ع ) بعد استشهاده في واقعة كربلاء.
رائيتان لخاطرة الصبا ، بين وقيعة وفجيعة ، يشاغلهما أيقاع اللغة ونحيب نساء يخلطن الأسى بصور المكانين المحترقين ، نعاء يشد وجع الجنوب اليه ومراثي تندب حال ما انتهت اليه احزان عاشوراء وقافلة السبايا، وفي المقابل تقع نينوى في ذات الخانة من الفجيعة القدرية مع الغزاة والاقوام الجبلية واخيرا مع داعش.
لتسجل مدينة الموصل صورة متكررة لمآسيها مع الحصار والحروب والقدرية التي تعيش في مشابهات مصائرها ، حيث تنتحب المدينة ومجاوراها من احتلال آخر قد لا يكون محسوبا في حسابات المكان الذي لم يتعود يوما أن يستسلم لنفر ملتح حملته رياح التكفير من الشيشان وافغانستان وقرى مغاربية في الاطلس او الاوراس او بلدان شرق اسيا…….!
صورة نينوى في محنتها ، وصورة الحرف المسماري ، والحزن المرسوم بتفاصيل أسى بكاء النبي يونس وهو في بطن الحوت ، تنتمي الى القدرية المشابهة بين أور وكربلاء.
أقود اخيلتي الى ابعد من ذلك ، هناك حيث أعيش جغرافية الاشتياق الى شهية خواطري الاولى ، الزقورة والثيران المجنحة أو تراب الطف ، فيعيش الحرف وجدان الفنتازيا في أعماقي وروحي وأغلفة كتبي ، والحبر الذي كنت ولم أزل أخط فيه قصصي وقصائدي ورواياتي وأساطيري…!