عندما مات حمورابي سنة 1750 قبل الميلاد، ترك لسكان بابل نظام قانوني مكتوب واضح المعالم لا يقبل التأويل يرجع له المواطنين لمعرفة حقوقهم وواجباتهم.
والامثلة على وضوح قوانين حمورابي أكثر من ان تعد اذ تميزت مسلة حمورابي بكونها نص صريح وواضح لا يقبل اللبس ولا يحتويه أي غموض ولا يدخله اي تناقض ويستطيع أي
انسان مهما بلغت به البساطة أن يفهم معناه.
نحتت قوانين حمورابي على حجر من الجلمود القاسي على شكل مسلة وضعت في الساحة العامة وسط مدينة بابل لكي يطلع عليها كل سكان الامبراطورية ولتساعد المواطنين
على معرفة حقوقهم وواجباتهم وليرجعوا إليها في أي خلاف يحصل بينهم.
عندما توفى النبي محمد ترك للمسلمين كتاب ملئ بالغموض والابهام والخلط واللبس والتناقضات. القران “نزل” خلال فترة تجاوزت الـ 23 سنة منها 13 سنة تميزت بمفاهيم التسامح والدعوات الإنسانية والتفكر بهذا الكون ونداءات لمساعدة الضعفاء والمظلومين (الفترة المكية). تلتها 10 سنوات من التعليمات الحربية والأمنية التي نزلت بعد بدء ظهور ملامح الدولة الإسلامية الأولى في المدينة واتخاذ الإسلام للسلاح كسبيل للوصول إلى مبتغاه.
مباشرة بعد وفاته، أختصم أقرب أصحاب محمد مع بنو اهله على خلافته. ولان محمد كان بالنسبة لأصحابه رسول ونبي، لم يكن ليستطيع ان ينيب عنه أحد حتى ساعة وفاته اذ لم يكن هناك منصب لنائب نبي او رسول في الاسلام كما كان هناك في الديانة اليهودية.
وواجه أصحابه فجأة واقع جديد مليء بالخلافات القبلية والاقتصادية وحتى الايمانية داخل البيت الاسلامي التي لا يستطيع القران حلها فالقران ليس مسلة حمورابي بل هو عبارة عن نصوص يشوب اغلبها الغموض متداولة شفاهيا ومكتوب بعض منها على جلود الحيوانات وعظامها لا توجد فيه اية واحدة يجمع على تفسيرها كل المفسرين. ولاحت للفخوذ العشائرية الغنية داخل قريش والتي تم تهميشها اثناء حياة محمد فرصة الرجوع إلى قوتها واستعادة مجدهم الذي حرمهم منها الوحي المحمدي منذ فتح مكة لغاية وفاة الرسول. كان بني أمية يشكلون العمود الفقري من مفكري قريش واغنياها وكانوا كذلك ذوي حكمة وصبر، لذا هم لم يهرعوا للحكم عقب وفاة محمد لانهم كانوا على يقين بان اي خطوة من هذا النوع سيقابلها خليفة محمد ابو بكر بقمع مشابه للقمع الذي
استعمله في حروب الردة الذي وصل الامر بقوات ابو بكر ان قطعت الرؤوس وطبختها في قدور واستحلت زوجات مسلمين (سميوا أعداء) كما لو كانوا ليسوا ببشر كما وردنا في
القصة المعروفة لخالد بن الوليد مع مالك بن نويرة.
تدبر بنو امية الامور لان تعود السلطة لهم تدريجيا حتى تحقق ذلك في عصر الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي استطاع خلال فترة الـ 12 سنة التي قضاها في السلطة بتعين اقاربه ومقربوه في كل المناصب المهمة في الدولة الفتية لتأسيس عودة الحكم نهائيا إلى بنو امية.قتل عثمان وانشطرت الدولة بين قطبي الخلافة: علي بن ابي طالب الهاشمي الذي كان
سيؤدي توليه الى إعادة السلطة الى بني هاشم واعاده تهميش بنو امية من جهة ومعاوية الذي لم يكن ليتنازل مرة اخرى عن السيادة والسلطة والنفوذ المستحق لقبيلته بنو امية من جهة أخرى والذي نقلت بعض مصادر التراث عن ابنه يزيد قوله (لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل). كلنا يعرف قصة مقتل علي وابناءه الحسن والحسين وكيف نجا معاوية وكيف ال الحكم
إلى امير المؤمنين يزيد بن معاوية. في هذه اللحظة التاريخية بدأ الفكر السني ببناء صرح الفكر الارهابي الذي نعيش نتائجه اليوم. فبانعدام أي قانون واضح ومكتوب تركه محمد انتهى الامر بيد سلاطين بنو امية الذين استعانوا بجيش من شيوخ الدين الذي كانوا يشرعون كما تقتضي الضرورة وكما يشتهي الخليفة وذلك للقضاء على معارضيه واعداءه ولإضفاء الطابع الشرعي الإسلامي
على افعاله ولتسهيل بطشه بأعدائه وكان سلاح الشيوخ هو غموض النص القرآني وازدواجية معاني الآيات كما أسلفنا والتناقل الشفاهي لأوامر النبي واراءه والتي سميت بالأحاديث التي سهلت
للخليفة بتدبير أحاديث تبرر أفعاله وقراراته. بدأت في الحقبة التي تلت استلام بنو امية للسلطة حرب طائفية دينية بين طرفي
الخلاف (الذين تمت تسميتهم لاحقا بالسنة والشيعة) سلاحها السيف والنص من طرف الدولة الاموية (ولاحقا العباسية) وبين معارضيهم باقي المذاهب الذي كان سلاحهم النص فقط من جهة أخرى (الشيعة تركوا القتال منذ تاريخ مقتل علي بن ابي طالب في الكوفة سنة 661 ميلادية ولغاية سنة 2006). وبدء كل طرف بالتقول على لسان محمد على شكل أحاديث اولا ثم فتشوا في ثنايا القران لتبرير حججهم. ولان القران حمال اوجه وكل من بحث في القران وجد ضالته
مهما كانت تلك الضالة، وجد كلا من الطرفين ضالتهم.
استقر الحكم لمدة قرون بيد ما اصطلح على تسميتهم فيما بعد بالسنة وكان الخليفة منهم لا يرث قوانين مكتوبة من سابقيه وإنما يرث مجموعة من شيوخ دين يفتون له بكل ما يتطلب
الامر ويشرعوا له افعاله مهما كانت. داب شيوخ الخلفاء على التركيز على فتاوى “أمنية” تشرعن للخليفة أساليبه في ضبط المدن والامصار والتنكيل بمعارضيه بأبشع العقوبات واستباحة
تكفير المخالفين للخليفة لتخويفهم ولتسهل قتلهم أو حبسهم أو الضغط عليهم وإذا تطلب الامر استحلال اموالهم وحتى قتل نسائهم واطفالهم. لم تكن تلك الفتاوى صادرة لضبط الشيعة فقط بل امتدت تلك الفتاوى لتشمل احكام لمعاقبة وضبط وتخويف كل المذاهب الإسلامية التي بدأت بالانتشار في دار الخلافة
والتي كانت تشكل مصدر خطر على امن وسلامة الدولة.
تذكر الروايات الاسلامية ان الحجاج بن يوسف الثقفي أعدم من العراقيين في عشرين سنة أكثر من مائة وعشرين ألفا من الناس بقطع الرأس بالسيف أو الذبح من القفا أو الرقبة،
دون حرب ودون أن نعرف من هم هؤلاء الناس ولماذا قتلوا لمجرد الشبهة والظن. ولم يتوانى زياد بن أبيه والي الأمويين على إقليم العراق بتشرّيع مبدأ “القتل بالظنة والشبهة” وكان يقول “حتى لو مات الأبرياء فهم ضحوا بأرواحهم إخافة للاشقياء” وهو الذي شرّع قتل النساء. أما نائبه الصحابي “سمرة بن جندب” فان يديه
قد تلوثت بدماء ثمانية آلاف من أهل العراق على الظن والشبهة.
وبلغ الأمر أن امر الخليفة القرشي يزيد بن معاوية فقتل من قتل في وقعة الحرة التي هي من كبرى المخازي الإسلامية التاريخية عندما استباح الجيش الإسلامي الأموي دماء
السكان ونساء المدينة ثلاثة ايام حبلت فيها ألف عذراء من سفاح واغتصاب علني وهن المسلمات الصحابيات وبنات الصحابة والصحابيات. ولم يتوانى الحجاج عن هدم الكعبة
بالمنجنيق في محاولته ضبط مكة إبان ثورة ابن الزبير.
كل هذه الافعال كانت تحتاج إلى تبريرات شرعية اسلامية توفر لفاعليها غطاء شرعي ديني مستمد من القران والسنة المحمدية المتناقلة شفاها. أبدع شيوخ الدولة الاموية والدولة العباسية من بعدهم بإصدار الفتاوى والتشريعات استند معظمها إلى ادعاءات أحاديث محمد لكونها أولا غير موثقة وثانيا كانت اوضح نصا من نصوص سور
القران الذي يحمل عدة اوجه من التفسير. وحتى عندما تطلب الأمر أن يخالف الخليفة القران كان هناك حلول جاهزة لتلك الحاجة إذ تصدى الحجاج الثقفي وقام بإصدار النسخة الأخيرة من القرآن بعد أن عكف عدد من علماء الأمة وبأمر مريب من الخليفة “لتصويب” الإصدار العثماني وتشكيله
وتنقيطه وبإشراف شخصي دائم من الحجاج.
ومنذ تلك الحقبة والتراث السني يراكم الاحكام تلو الاحكام والتشريع تلو التشريع والفتوى تلو الفتوى والتي تبيح القتل والذبح والمثلة والحرق وقتل النساء والاطفال وسبيهم وتكفير الاخرين. وهو التراث المستعمل اليوم من قبل كل الحركات الإرهابية من أبو سياف في الفلبين إلى بوكو حرام في نيجريا مرورا بداعش والنصرة وغيرها.
في ضل سلطة غاشمة استرخصت دماء المخالفين لها وفي ضل غياب أي فرصة لحمل السلاح كان اقصى سلاح يستطيع الطرف الآخر المعارض للخليفة استعماله هو الدفاع عن
وجودهم باتجاه تلك الفتاوى بأقوال وآيات ونصوص تستحضر رحمة الاختلاف وتحرم تكفير الاخرين مهما كانت دياناتهم او عقائدهم كأنهم يقولون لا يجوز تكفير
الآخرين مهما كانت عقائدهم.
وداب شيوخ باقي المذاهب على استحضار الآيات المكية المتسامحة واحاديث محمد المكية التي كان يدافع فيها دفاع سلمي عن المستضعفين. فلم يكن باستطاعة شيوخ
باقي المذاهب ان يستحضروا آيات مدنية أو الموافقة على الأحاديث التكفيرية التي تبيح دماء معارضي الخليفة أو ولي الامر لان تكفير المخالف كان سيرتد عليهم من
سلطة لا تعرف الرحمة بمعارضيها. فكيف لشيخ شيعي أو اشعري مثلا ان يفتي بقتل من فارق الجماعة (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عتقه) مثلا والدولة كانت تعتبره ومريديه مفارقين للجماعة؟
أو كيف يفتي بحرق المرتدين والدولة تعتبره وجماعته من المرتدين؟
أصبح الصراع واضح المعالم: شيوخ الدولة السنية الذي كانوا يفتون فتاوى دموية تسهل على الخليفة وقادة جيشه قمع أي معارضة داخلية أو تمرد داخل الدولة يقابلهم شيوخ باقي المذاهب يحاولون الدفاع عن وجودهم ودماءهم عن طريق استحضار أحاديث ونصوص التسامح.
وبقيت هذه الدائرة من الصراع الفكري مستمرة لمدة 1300 سنة بين طرف يريد ضبط الامن في دولته عن طريق تكفير من يعتبرهم اعداءه لاخراجهم من الملة فيبحث في الاف الكتب التي ورثها والتي تتفن في نصوص استباحة دماء المخالفين له وبين من يدافع عن نفسه امام جبروت الخليفة فيبحث في النصوص التي تركز على كل ماهو مسالم وتصالحي وتسامحي لينجوا بنفسه.
وانقسم القران الى نصفين، سور مدنية تمسك بها شيوخ السنة لأنها تحتوى على كل ما يرغبون به من اوامر لتغييب وقتل للمخالفين لحكم الخليفة وتمسك اتباع باقي الأديان بالسور المكية المتسامحة التي كانت تخاطب الاخر المختلف بارقى خطاب ديني انساني قالها محمد (ص) عندما كان في نفس ظرفهم المعارض لسلطة قريش فمحمد في مكة فلم يكن يستطيع ان يقول لحكام مكة (من ترك دينه فاقتلوه) لانه ساعتها سيكون هو صريع قوله هذا، وهذا تماما ما كان عليه حال باقي المذاهب الإسلامية في ضل الدولة السنية طوال 13 قرنا.
ولا يوجد مثال اكثر وضوحا من قراءة وصية ابن تيمية شيخ شيوخ السنة. ولد الشيخ السني ابن تيمية بعد مرور 500 سنة على بدء هذا الصراع وكان قد تجمع في رصيد الفكر السني مكتبة كاملة من فتاوى التكفير الالغائية لذا كان من السهل عليه ان يوصي بمعاملة من تشيع لعلي بن ابي طالب بوصية ملخصها آيتين مدنيتين هما:
يوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين وغيرهم من الضالين
وينطبق عليهم قوله تعالى ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)) ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)) وهي آيات واضحة المعنى تكفر المخالفين وتحث على سفك دماءهم يستخدمها اليوم ارهابيو القاعدة وداعش في تبرير عملياتهم الارهابية.
ان الفكر التكفيري الارهابي فكر له امتدادات عميقة وجذور متأصلة في الفكر الديني السني الذي يمتلك خزين هائل من الفتاوى الالغائية لمخالفيه ومن يراهن على محاربة هذا الفكر عليه ان يعي هذه الحقيقة التاريخية التي غابت عن الكثر من الباحثين في ظاهرة الارهاب الإسلامي السني.
إذا اخذنا بالاعتبار هذه النظرة التاريخية للمشكلة يصبح من السهل علينا معرفة اسباب انتشار منظمات ارهابية جميعها سنية تعتبر كل مخالفيها اهداف مشروعة لا
باس من قتلهم او خطفهم او قطع رؤوسهم ونحرهم امام شاشات التلفزة، فالخزين الفكري المتوفر لها يبلغ حجمه 13 قرنا من فتاوى التكفير …. لذا فهو نظريا
معين فكري لا ينضب. في حين لا يستطيع الشيعي أو الاشعري أو الزيدي ان يجد في تراثه الديني فتاوى
تحث على القتل حتى وان هو نبش وفتش في كل كتب المذهب لكون الخزين الفكري للمذهب
تم بناءه في اجواء المعارضة الدفاعية.
الحرب على الارهاب يجب ان تبدأ من محاولة فهم اسس الارهاب واتلاف خزينه الفكري
وبدون هذه الخطوة لن تنجح اي حلول طويلة الامد.
موقع اسلام ويب التابع لحكومة قطر حذف منذ يومين احاديث الحرق التي استعملتها داعش لتبرير اعدام الطيار الاردني الكساسبة وهي خطوة مثيرة للاهتمام ولكنها
متواضعة جدا ومتأخرة جدا وجاءت على استيحاء، ففي عصر المعلوماتية الذي نعيشه لا يمكن معالجة الأمر بحذف نص هنا وحديث هناك من موقع إلكتروني، فالأمر يتطلب وقفة حداثية تربوية تبدأ بتأهيل شيوخ دولة (مرة اخرى) يتصدوا لدحض تلك المكتبة الهائلة من تركة فتاوى التكفير والقتلمع تغيير مناهج الدراسة ولا تنتهي بتأسيس مرجعية واحدة وثابته
للمذهب السني.