( تماهي المتوقع و المدلول الارتجاعي )
ان قراءة مكونات مشهدية قصيدة ( نجاة عبد الله ) تتطلب من القارىء فهما حيزيا احتوائيا خاصا ، و هو يدلف تمفصلات و صفات تلك الخاصية الاحتمالية في قصيدة هذه الشاعرة ، أي بمعنى ان قراءة شعرية الكلام في موجهات خطاب القصيدة لدى عوالم هذه الشاعرة ، يتخذ لذاته جملة امكانيات مشروطة و منقسمة ، تحاول ان تصنع لمعطياتها التراسلية العضوية و البنائية ، أشبه بحالة من حالات الكينونة التكوينية ، المحكومة عادة بحركية الزمانية و المكانية ، و منظومة المفاعل الحسية في لغة وصف الأشياء و تحركات الأفعال و المداليل الحضورية من زمن تكاملية الاداء الخطابي و النسقي في صناعة القصيدة . من هذه المقدمة سوف احاول تناول و تعريف و معاينة و كشف ، عمق جذرية دلالات و افعال اشتغالية قصائد ديوان ( مناجم الأرق ) و قبل الدخول التطبيقي ، لقراءة نصوص هذا المشروع الشعري ، أود ان أقول للقارىء اولا و من ثم إلى الشاعرة ثانيا ، بأن مرجعيات قيم الجوائز و الرهانات التي عادة ما تكسبها النصوص و
الأعمال الشعرية ، في المسابقات الأدبية و الثقافية ، لربما لا تجد لها مكانا ما ، أو تقويما مفيدا أو قياسا سويا ، داخل حقل معيارية الناقد و النقد الأدبي ، خصوصا و ان من يحتكم هناك فرص الربح و الخسارة ، ما هم ألا أناس من أنصاف المواهب و الثقافة النقدية ، لاسيما و الكل يعرف ، بأن أحكام منصات الجوائز و المسابقات ، لايمكنها في يوم من الأيام ، من أن تشكل ثمة أختبارية ناجحة لموهبة أو ذائقة حقيقية . و من حدود هذا الكلام تحديدا ، سوف اباشر في قراءتي لنصوص قصائد ديوان ( مناجم الأرق ) :
أمي
صباح ذكراك
في ليل الطرب هذا
تجلسين الأن
في منتصف القبلة
تتصفحين
رداء الدموع ،
و نتبعثر .. ص41
عندما يقرأ القارىء مثل هذه المقاطع من قصيدة ( غربة ) لربما سوف تحيله هذه الملامح المشهدية التصديرية من زمن مدار خطاب القصيدة ، نحو انبثاق تكويني خاص ، من متن صدوريات بيئة خالصة من المتشابهات الاستثنائية و التي هي متآتية ، من قيمة حركة القول الاحالي في المركز ، و المتصل بهوية صوت الراوي في فضاء حجوبات القصيدة . فدال لفظة ( أمي ) يبدو حالة استفهامية و أسمية معلومة وفقا لموقعها الأول من النص ، كما و تشكل في الوقت نفسه ،
حالة أتباع نسقي من الرؤية الأنجذابية ، لمعلومية عنونة دال (غربة ) . غير ان الأمر و حتى لحظة حلول جملة ( صباح ذكراك ) و جملة ( في ليل الطرب هذا ) ، لم نتبين من خلاله ثمة أمرا ما ، سوى ان ما جعل التحقق الوظيفي في الجملة ، يبدو شكلا كشوفيا دقيقا في بنائية جملة (تتصفحين / رداء الدموع / و نتبعثر ) فبهذه الاجرائية الخصبة لمتن علاقات جمل الأفعال ، راحت حيوات الملفوظ المقطعي ، تتكاتف فيما بينها نحو مسعى حساسية المخبوء من زمن ( المسكوت عنه ) و من زمن شفرة القول الشعري الأول في مركز القصيدة . بيد اننا من جهة أخرى نلاحظ بأن صوت الراوي في البدء ، كان يحاول ان يستعرض مجموعة جمل ، تتصل بحالات من الدوال الطباقية المحفوفة بحركة المركز ، و هامشية انبثاق المعلول الهامشي من الخطاب ، و بمحفزات استعادية ذات قيمة خاصة من الصفات و المقاصد التوالدية من خاصية دليل مؤول الذاكرة الشعرية ، ألا ان الأمر و حدود جملة
( ونتبعثر ) غدا صوت الراوي الشاعر ، يلوح إلى ثمة فكرة تكوينية و رؤى أخرى من مستوى الآخر القابع في مشهدية القصيدة :
صارت
الاشجار بكاء
و الاغصان
عارضات احزان
تتكسر ،
و نحن نفر من الوحشة
ونعبىء الليل
في ثيابنا الجديدة .
يبدو ان موضوعة هذه القصيدة ، و في ختامية مشاهدها ، كما لو انها حالة من حالات ( الاغتراب الذاتي ؟ ) إزاء فعل خسارات اللحظة الزمنية و العمرية من حياة الشاعرة ، و إلى حد هذا القول ( و الاغصان عارضات احزان ) اذن فأن صوت الشاعر في هذه المشاهد الصورية ، أضحى ضميرا وجوبيا ناطقا ، بحركة الأشياء الحية بموضوعة ذات الشاعر نفسه ، و لكن من جهة أخرى ، لم نجد هناك ثمة دليل مباشر على ضمائرية ( الأنا ) اللهم ألا في حدود مناطق احتمالية بعيدة ، عن اطار انطلاقات الايحاء بأن هذا الكلام ، ما هو ألا مصدرية تحققية من مكونات صوت ( أنا الشاعر ) . من الملفت حقا ان نقول و نحن نقرأ قصيدة الشاعرة ، على أننا لاحظنا بأنها لا تشيع حول ذاتها ، أية أفعال مباشرة ، و بدليل ان جميع الصور الشعرية في القصيدة لديها ، قد جاءت قرائيا ، كما لو انها عبارة عن موصولات ايحائية نابعة من واقع ذاتي آخر ، أي بمعنى ان الشاعرة لا تلوح لذاتها بشكل مباشر ، و هذا بدوره ما جعل نصوص قصائدها ، أقرب إلى حالة الانزياح الاحتمالي ، كما ان القصيدة لديها أحيانا ، تعمل بموجب تعاطيات خطابية ، تتخذ لها شكل سياقية الآخر المقصدية ، و المتآتية بأظهارات فاعل انبعاثي مضمر ، من سطح الصادرة المتوالية الشعرية ، و المجلوبة بحمولات المركز النصي في القصيدة .
أطارد أقدامي
كالكرة البالية
نتعثر في
قفز الذكريات
. . .
أقود سمعي
إلى الحدائق
ليس عصيا
ان تسمع نباح كلبك
عشية تفتح الأزهار .. ص44
لا شك ان نصية قصيدة ( نهايات متدلية ) و عبر مراحلها الانتقالية هذه بواسطة اداة التنقيط و الفراغ الطباعي ، تمنح لذائقة المتلقي ، درجات متعاقبة و متراكبة من الفهم و توسع مساحات المؤول الخطابي ، فمثلا نعاين جملة الاستهلال المدخلي في النص ، و التي جاءت بمحمول جملة ( أطارد أقدامي ) ثم جملة التشبيه ( كالكرة البالية ) ان مثل هذه العلاقة المضافة في الموقع المقطعي ، توضح لنا أفق درجات المضمر من زمن الاستثمار الدلالي ، حيث يتم بحدود اطلاقية مفتوحة نحو موصوف فعل ( نتعثر ) و يعزز هذا الموصوف بجملة ألحاقية ( أقود سمعي ) كحضور ماثل إلى جانب صورية مضمون جملة ( إلى الحدائق ) و هذا التلاحم المقطعي في نسقية علاقة الدال بالآخر المشفر ، راحت تؤصل في النص ، مساحة جديدة من حساسية المنقول الوصفي بجملة ( ليس عصيا ) ليقودنا الأمر بعد ذلك إلى حالة من حالات الألتقاط الاستشرافي و التوقعي من دائرة المؤول العلائقي في النص ، و الذي صار بمثابة المكون لحالة دال ( نباح كلبك ) ، مما جعلنا نستند على مفاتيح حدود تأويلية الأستجابة القصوى من زمن مشهدية الدال المرجح بشفرة علامة ضدية الشكل الدلالي ، و التي تتمثل بجملة
( تفتح الأزهار ) . ان نجاة عبد الله بهذه القصيدة ، أخذت تعاين مرحلية انتقالية من زمن إلى زمن ، و من نهج إلى نهج
، لتكمل بهذه الانتقالية الاسلوبية محتويات دائرة ( المدلول الارتجاعي ) و استعمالية مفهوم ( تماهي المتوقع ) لتشكل القصيدة بشكل عام ، مسارا خاضعا ، نحو مقاربات من ثنائية
( المدلول الارتجاعي / تماهي المتوقع ) أي ما معناه ، ان الشاعرة عندما تشكل افعال قصيدتها تلجأ إلى فاعلية مقدماتية بشكل ما ، في حين عندما تصل إلى مرحلة الوسط في النص ، فأنها تبعث شكلا مغايرا ، لبوادر حاسية البدء في النص و ما عليه مستوى استجابة المحورية الدلالية في تلك العتبات الشعرية ، و هذا بدوره ما جعلنا نسميه ( التماهي المتوقع ) أي ان المعنى في حركة الدال القولي ، يبقى رهين علامات من المخفي و المتوقع . أما ما اطلقنا عليه أسم ( المدلول الارتجاعي ) و معناه ان المسارية المدلولية في محددات الوضوح القصدي في مخاطبة النص ، تتبلور وفق مداليل بنية ذاكراتية من زمن راوي النص ، مما يجعل المروي النصي ، عبارة عن مقدرات ارتجاعية مدلولية كثيرة الولوج في هيئة العلامات الماضوية ، و مكاسبها التقويمية المحفوظة شكليا و مضمونيا في المبنى الشعري العام في القصيدة .
( الرؤية الداخلية .. الصورة الذاتية )
في قصائد ديوان ( مناجم الأرق ) هناك أكثر من حالة و محور و رؤية و دلالة شعرية ، فمثلا و نحن نقرأ قصائد الديوان ، عثرنا على وجود رؤية داخلية في شكل بنائية معنى القصيدة ، بشكل يغاير مجاورات تلك الوثوقية الخطابية الظاهرة من زمن رؤية الشكل النصي العام الظاهري . بالأضافة إلى هذا ، هناك ما يسمى ( الصورة الذاتية ) و هي صورة علاقة الشاعرة بسياق نصها الظاهر و الواضح ، و
تبعا لهذا سوف نقرأ قصيدة ( الفكرة .. أدناه ) لنوضح و بالمثال للقارىء حول كيفية اجرائية هذا الاسلوب لدى الشاعرة :
أقضم أفكاري
بذلك الرقاص الأحمق
و الزمن .. التمثال
يندثر
ليس لقامة عاثرة
أنما
لحائط ثمل
أبتغيه . ص57
ان مؤشرات الرؤية في دلالة هذه القصيدة ، توحي إلى علاقات زمنية ظاهرية البصيرة و المخيلة و السياق المكاني . غير ان هناك في الوقت نفسه ، ثمة علاقة رؤية داخلية أخرى ، تعاكس مجريات ذلك الزمن الرؤيوي الظاهر ، و المادي في النص ، فعلى سبيل المثال ، لعل القارىء يلاحظ جملة الأستهلال ( أقضم أفكاري ) أي بمعنى هنا حالة من حالات التلويح بزمن حدثي داخلي ، الدلالة و الدال ، حيث يجري بموجب لفظة ( أقضم ) و هذه الدالة هي بحد ذاتها، تشكل منظورا داخليا ، يتجه نحو منحى المحكي السري من توليد صفة التباحث مع لفظة ( افكاري ) و إلى حد وصول الحالة التوليدية ، إلى محصلة تفاعل جملة ( بذلك الرقاص ) و بهذه الجملة الايحائية ، نجد انفسنا أمام علامة لفظة ( الرقاص ) حيث صار لدينا الأن ، ثمة صلة اواشارة ، إلى ان هناك زمن متحرك ، حيث يكتسب ديمومته ، من علاقة الجملة السابقة
( أقضم أفكاري ) و بما ان هناك حركة أفكار ، أي ان هناك زمن متحرك ، و لربما هو داخلي ، لأن عائدية الصوت الضمائري ، تشير إلى ما هو قادم من لفظة دال ( أقضم )
أي ان هناك فعل سري و ليس ظاهري ، مثل صفة
( الاحمق ) كما ان ورود الجملة اللاحقة ( و الزمن .. التمثال) هي بمثابة الرؤية المحكومة نحو ثنائية ضدية
( الوجود / العدم ) فأذن بما ان هناك ( زمن ..تمثال / الرقاص .. أفكاري ) فمن الوارد جدا ان هناك صورة ذاتية ، ترى هذه الاشياء بمنطق مداركها الحسية المتوافقة و المتغايرة ، خصوصا بعد مجيء هذه التواصيف من المشهد القولي في القصيدة ( يتدثر / ليس لقامة / أنما / لحائط ثمل / أبتغيه ) ان ورود كلمة ( أبتغيه ) في نهاية حركية هذه الأفعال ، هي بحد ذاتها تشكل منظورا ايحائيا ، على ان هناك بشكل اكيد صورة ذاتية ، إلى جانب وجود رؤية داخلية في بنية القصيدة . و على هذا لا يسعني سوى القول للشاعرة نجاة عبد الله : في الحقيقة ان ما قد قرأناه في قصائد ( مناجم الأرق) ما هو ألا معايشات الرؤية الذاتية في تدوين صورة النص الشعري ، كما و ليس النص بكل مقوماته الأبداعية و شرائط وجوده النصي الكامل ، و لكن أعتقد من جهتي بحكم كوني قارىء لهذه القصائد ، لعلي وجدت فيها مرحلة متقدمة لما قد كتبتيه سابقا في القصيدة ، خصوصا و ان هذه القصائد الظلية القصيرة ، قد حلت بمثابة الرؤية المتلازمة ما بين
( أرق المعنى ) و بين ( انزياح الاحتمال ) حيث تحكمها بالنتيجة ، ثمة متواليات جادة و جديدة من روح الاختيار و حذق منظومة الذات الواصفة . و في الختام أود ان أضيف ثمة قولا جديدا بحق عوالم نصية (نجاة عبد الله ) : عزيزتي الشاعرة نجاة ؟ لعل من السهل جدا تكوين موضوعة القصيدة
، و أيضا من السهل جدا أصدار و انجاز المئات من مشاريع المطبوعات الشعرية ، و لكن من الصعب جدا جدا ، هو أحكام ضوابط النص الشعري الابداعي ، و الذي يجعل العارفين فيه و أسياده ، يشيرون ألينا على أننا أصحاب نصوص ابداعية حقيقية ، فالقصيدة الابداعية رحلة شاقة و مرعبة ياسيدتي ، لذلك يبدو انتخابها نقديا ، يشكل صعوبة و مسؤولية محيرة و مقلقة من ناحية الناقد ، بيد ان القصيدة تبقى من كل هذا ، ليست مجرد تسجيل و تدوين المشاعر و الهواجس ، و الصور اليومية من حياة الشاعر ، كما ان القصيدة ليست مجرد انفجارات لغوية تجري مجرى ، الناس في الشوارع و ساحات العربات ، بل ان هناك في صناعة القصيدة الشعرية الحقة ، ثمة فواعل و مواهب و فضاءات تقنية خاصة ، لربما لا يجيدها كل من قام بكتابة القصيدة . هكذا هي عوالم ( نجاة عبد الله ) في قصائد ( مناجم الأرق )
محض اصوات انثوية ، تجسد غايات اليقين الحالم و المتمرد ، بمحاولة الخروج من مناجم فراغ العاطفة ، و جحيم أرق خيبة التوقعات و المظاهر الوهمية المتسترة خلف ستارة حوارية الأشياء الزائفة . ان نجاة عبد الله و عبر قصائد
( مناجم الأرق ) تسعى إلى محاورة و فهم و رصد تأويلات استجابة ذات الأشياء ، إلى كيانية لغة الشاعر ، التي راحت في نهاية المطاف ، تنسحب إلى مواقع منطوقات مشبعة بالذاتية و الدهشة الانفعالية ، تسبقها ثمة اشكاليات احتمالية ، قرارها زمن تقديرات سر جمالية تضافر القصيدة النسائية فحسب .