في مجمتع تحوّل من صانع للحضارة والعلوم والثقافة، إلى مجترٍ لما يتعطف به عليه الآخرون، تقوده المزاجية مرة، وأضغاث الأحلام مرة، ورعب السلطة مرات، حيث تتحوّل فيه الأكذوبة إلى صدق، والإشاعة إلى حقيقة، ينصت للفضائيات أكثر مما ينصت لصوته، يسلم قياده للسارق والكذاب، ويعود يندب حظه ويتباكى، مجتمع أصبحت فيه كل الأشياء المستحيلة والغريبة ممكنة، فبين ليلة وضحاها استفقنا على أكذوبة طالما كانت جزءاً من حياتنا اليومية، لكن هناك من برع في أن يقدمها بعنوان فضفاض كبير، ليكون جذاباً وملفتاً، ألا وهي الجنود الوهمييّن أو ما أطلق عليه( الفضائييّن)، وبين فساد السلطة وفضائيي العسكر، يبدو وكأن العراق أخذ يتستفيق من سبات عميق، ليصطدم بحالة لم يألفها من قبل، وحالة الصدمة هذه التي تحوّلت إلى محور إعلامي وسياسي، منذ أسابيع أنتقلت عدواها من طبقة السياسين وصنّاع القرار السياسي والإقتصادي، في العراق إلى الشارع العراقي، وأصبحت حديث الشارع، فنحن تعوّدنا بحكم طبيعتنا المزدوجة أن ننسى أو نتناسى فواجعنا لكثرتها، لنتجول بين صفحاتنا اليومية الموجعة، نقرب هذه ونبعد تلك، وصرنا عبيد الإعلام والأحزاب والرموز السياسية والدينية، التي توجهنا كيفما شاءت، وقديماً قيل عن العراقي (أنه مقتح باللبن)، لكن اليوم يبدو العراقي وكأنه يعيش في العالم، مثله مثل من لايرى ولا يتكلم، ولكنه يسمع فقط. وإذا تكلم فأنه سيتحدث بلسان قناة الجزيرة والعربية والعربية الحدث، وفيصل القاسم وأنور الحمداني ومها الدوري وفادي الشمري وطه اللهيبي وحنان الفتلاوي، ليضيع صوت العراق وسط كل هذا الصراخ والضجيج، كما قُدر له أن يضيع منذ أكثر من 90 عاماً حين كان صوت بيرسي كوكس ومس بيل أقوى من صوت الحقيقة، وثورة العشرين، ليؤسس لكيان مشروع الدولة الفاشلة، الدولة التي ولدت متأزمة وتحمل معها كل بذور فشلها واندحارها، الذي ظل ينمو ويكبر معها، في ظل العواصف والهزّات المتتالية، بين حقب متنوعة من القتل والإقصاء والترهيب والنفي والإبعاد، مارستها أنظمة سلطوية مستبدة كان البعث والطائفية والعشائرية عنوانها البارز، في التاريخ الحديث والمعاصر للعراق، فمن استيراد وتنصيب فيصل الهاشمي الأول ملكاً على العراق، مروراً بكل رموز النخب الأوليغاركية، التي تربت في أحضان الخلافة العثمانية في أسطنبول، وحتى عهد البعث، كان العراق وكأنه مرجل يغلي على نار بركانية لا سبيل لأطفائها، وكانت مراحله، سيل لا ينقطع من الأزمات الخانقة، التي كان يدفع ثمنها في أغلب الأوقات هذا الشعب المسكين، من حرب الشمال منذ عشرينيات القرن الماضي، وحتى حروب داعش في وقتنا الراهن، ومن الحرس القومي، إلى القاعدة والمليشيات، مروراً بالجيش الشعبي وجيش القدس والحرس الخاص والحرس الجمهوري، ومن أبو طبر وحتى أبو بكر البغدادي، سلسلة طويلة من المآسي والنكبات المستمرة، يخرج فيها هذا الشعب من فاجعة ليجد فاجعة أخرى في انتظاره، في طابور طويل من الفواجع التي كانت السلطة بارعة في اختراعها وتصديرها لهذا الشعب، ليظل يلوك بها أيام وأسابيع حتى تنتهي السلطة من إعداد طبخة أخرى ومفاجأة جديدة.
واليوم نعيد نفس الحكايات القديمة، وبنفس الطعم القديم، حكايات الحروب والشهداء والفواجع، حكايات لا تصلح إلا للعراقييّن فهم وحدهم البارعون في فن التأليف وكذلك القراءة.
أليست شهرزاد هي من صُنع محيلة أبناء هذه البيئة، تلك الفتاة التي عرفت كيف تحول الحكاية إلى طوق نجاة، يحمي رأسها من سيف الجلاد، لكن حكاياتنا للأسف لم تعد سبيلاً لدرء المخاطر، أو حماية رؤوسنا، أو حتى رؤوس أولادنا، صدّقنا حكاية الإنتخابات وذهبنا نقترع في صندوق الانتخابات، واعطينا أصواتنا لمن نثق بهم ونتوخى فيهم الوطنية، فإذا بهم تنقصهم الكثير من الجرأة وحنكة السياسة، بل أن أصواتنا تحوّلت إلى وسيلة يعبر من خلالها الفاسدين والمنحرفين، ليتسيّدوا سدة الحكم ويتحمكموا بمصائرنا، وتحوّلت البلاد إلى ما يشبه الكرة تتقاذفها أقدام مراهقي السياسة والدين، دسائس ومؤمرات ومساومات وتقاسم للغنائم وتسابق لسرقة مال الشعب وقوته، وكل هذا يحصل على حساب العراق والمواطن المسكين، وبأسم الوطن والمواطن والله والدين، حتى تحوّلت مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية إلى مقاطعات حزبية وعشائرية، تباع وتشترى بالمزاد العلني تارة وبالمساوامات الرخيصة تارة أخرى، ، وأمام الأشهاد وأصبحت للمناصب العسكرية والمدنية، بورصة مثل بورصة الذهب والنفط، فلكل منصب ثمنه ولكل وزارة سعرها المكلف.
هل حقاً نحن أو طبقتنا السياسية، تفاجئنا بحادثة العسكرييّن الوهميّن، أو ما يسمى(الفضائييّن)، وهل حالة (الفضائييّن) تختص بفئة أو جانب من حياة العراقييّن؟
ألا يوجد في عالم السياسة، ورموزها الكثير من السياسين الفضائييّن، الذين لا يمتلكون من عضوية الدولة الوظيفية الرسمية، إلا البطاقة الرسمية، ويتحصلون على كل امتيازات المنصب دون عناء، أو حتى دون تكليف أنفسهم الحضور إلى المكان الذي يستوجب أن يكونوا فيه لخدمة الشعب! ألا يوجد في المؤسسة التشريعية العراقية(البرلمان)، العشرات بل المئات من فضائيي السياسة، والذين هناك منهم من يعتبر نفسه رمزاً سياسياً، لكنه حتى لم يكلف نفسه عناء الحضور لبغداد لأداء القسم البرلماني.
أليس حماية البرلماني الثلاثون فرداً الذين خصصوا لحماية النائب منذ أكثر من 10 سنوات. بكل رواتبهم وامتيازاتهم، التي يسرقها النائب ولا يستعين سوى بأثنين أو ثلاثة من أقاربه، أو يستعين بأجهزة الدولة الأمنية في تنقلاته، هؤلاء أليسوا فضائييّن؟
الالاف من الموظفين الوهمين الذين يعينهم الوزراء والمدراء ولاترى منهم غير أسمائهم في سجل الرواتب أليسوا فضائييّن؟
الالاف من كوادر الأحزاب المتنفذة في السلطة والذين يقيّدون على أنهم موظفين في وزارات تلك الأحزاب ومؤسساتها، دون أن يكون لهم أي حضور بل أن الغالبية منهم يكونوا خارج العراق أو حتى يحملون جنسيات غير عراقية، أليس هؤلاء بفضائييّن؟
لم إذن كل هذه الضجة التي أثيرت هذه الأيام حول هذا الموضوع، التي يبدو أنها ضجة حالها حال المئات بل الالاف من الضجّات المفتعلة، والمصنوعة بعناية، للفت الإنتباه والعمل على موضوع جديد، ومن المؤكد أن العراقييّن وحدهم من سيدفع ثمنه، فمتى كان الفاسدون هم من يحملون لواء التغييّر، ومن أوصل العراق إلى هذه الحالات الفضائية، التي أصبحت تثقل كاهل الدولة وكيانها، غير هؤلاء أنفسهم الذين نراهم يتباكون على المليارات التي فقدت من ميزانية الدولة بسبب الفضائييّن.
العراق ومنذ عقود وليس فقط منذ نيسان 2003 وهو يعيش حياة فضائية غرائبية، لاتحدث في أي بلد آخر، والسبب هو الثروات الضخمة للعراق، وكذلك السلطات الفاسدة، ومن بعدها المستبدة، والتي كانت على الدوام هي من تمسك بمفاتيح الخزينة والقرار العراقي.
وسؤال أخير لمن يبحثون عن التغييّر، في ظل حكومة السيد العبادي، ألم يكن العبادي وكابينته الوزارية، من ضمن المنظومة التي هيمنت على الواقع السياسي العراقي، لأكثر من 10 سنوات مضت، ألم يكن هو ومن معه في التشكيلة الوزارية الحالية، من المقربين من دائرة صنع القرار الأمني والسياسي في العراق، خلال السنوات الماضية، فكيف يحدث هذا، فجأة تكتشف الحكومة، هذا الكم الهائل من الجنود الوهمييّن في مؤسستنا العسكري؟
وكيف ستعالج الحكومة قضية الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وضياع المليارات من الدولارات من خزينة الدولة العراقية، لأكثر من عشر سنوات، نتمنى ان يكون السيد العبادي بمستوى المسؤولية التاريخية، ويقود حملات جرد الحساب والذمة لمن لا ذمة لهم، ويعيد للخزينة المتهاوية، ما سرق منها تحت بنود الصفقات والمشاريع الوهمية، ويطهر الدولة من الفاسدين والفضائيين، الذين عبثوا بالدولة ومقدراتها، آمنين من شر العقاب، محتمين بالأحزاب والطائفة والسلاح، المستقبل أمامنا مفتوح على كل الإحتمالات، وليس أهونها سقوط حكومة ضعيفة فاسدة والأتيان بحكومة أخرى لا تقل عنها فساداً وضعفاً.