كل ماهو بعيد وصعب المنال هو الأقرب لأحتلال الذات وتحطيم ما يحيط بها . هذه المفارقة مسؤولة عن خسارة الكثير من المزاج و سنوات العمر . يبدو ان لحظة الوصول الى الشئ هي أيذان بموته . وهي نفس اللحظة التي يبدأ فيها المرء مشوارا جديدا يضع فيه هدفا (بعيد المنال) ليلهث وراءه . ويصبح الأمر نوعا من القلق المزمن حين يكون الهدف شبه مستحيل . في ظل هذه الآلية المقيتة تموت الاشياء التي تعبنا في الحصول عليها ولا يبقى لها أية قيمة.. ولكي أكون واضحا أكثر ينبغي ان اضرب لكم امثلة :
…
…
أم لديها خمسة أطفال . بعد جهد شاق استطاعت ان توصل اربعة منهم الى الجامعة , لكن الولد الخامس قطع الخيط وأبى الا ان يكون ( بائع فلافل) . بينما امه تريده ان يصبح طبيبا .. الولد الأخير لا يحب المدرسة , هنا بدأت مأساة الأم وفقدت الى الأبد متعة يومية تقدمها لها اربعة بنات ناجحات . الام تتعذب يوميا وهناك احتمال ان تصيبها جلطة في القلب . فالولد مصر على لبس صدرية الفلافل , بينما لاتغيب صدرية الطب لحظة واحدة عن مخيلة الأم .
…
…
أب لديه زوجة تحبه وراضية فيه رغم عيوبه ويقف الى جانبها ستة أطفال متعلقون به لايريدونه ان يغادرهم . لكن الاب متعلق بواحدة أخرى تعيش في (كولومبيا ) وقد دوخه حوضها اللاتيني المدهون بزيت الأرغان . الاب لايقدر ان ينام ويريد الهجرة كولومبيا لا ليقرأ ماركيز بلغته . ولكن ليتورط بزيجة ثانية عابرة للقارات .
…
…
تاجر عراقي يملك بيتا ورصيدا ماليا ومحلا يوفر له ولعائلته دخلا يكفيه لخمسين سنة قادمة . وبدل ان يتفرغ لأسعاد عائلته والدوران بهم حوال العالم نراه يستقتل ليكون نائبا في البرلمان . ليس هدف التاجر هو القضاء على الفساد فهذا ليس من أهتمامه و لايقدر عليه أصلا ولكنه وجد ان جلوسه على مقعد في البرلمان مفيد للعظام و للصحة النفسية . ولكي يحقق هدفه يحتاج التاجر الى اقناع خمسين الف من العراقيين وضمان اصواتهم . وهنا نتساءل ان كان الوصول الى مجلس النواب مفيد فعلا للجسم او يساعد في عمل الكبد او البنكرياس ؟
…
…
فتاة جميلة للغاية . لديها صفحة في الفيس بوك . كل دقيقتين تصور سنتمترا مربعا من جسمها وتلصقه في صفحتها فتنهال عليها علامات الأعجاب ( اللايكات ) والكلمات المصاحبة لها .. حين انتهت من السطح الخارجي لجسمها انتقلت الى الأحشاء الداخلية . أدخلت كاميرة صغيرة الى فضاء الفم وصورت البلعوم واللوزتين وسن العقل والغدد اللعابية . لصقت صورة شعاعية لهيكلها العظمي وصورة لها وهي في بطن أمها ( سونار ) . وعندما ظهر عندها المصران الاعور طلبت من الجراح ان يصوره لها قبل أزالته ورجته ان يصور الاحشاء المجاورة حيث طلب احد اصدقاء الفيس بوك ان يرى أمعاءها الغليضة . في كل مرة يعبر معجبيها الرقم 5000 . لكنها لم تعد تفرح . لقد سئمت من كل هؤلاء ولم تعد كلماتهم ويقضتهم ومتابعتهم الدائمة تثير أهتمامها . انها تود ان تستبدل كل هؤلاء ب (جورج كلوني ) . لكن الممثل العالمي يتلقى يوميا خطابات و ( لايكات) من فتيات اجمل منها ولا يقل عددهن عن 5000 في الدقيقة الواحدة ,
…
…
شاعرعراقي يحوز على أعجاب الكثيرين مع كل نص يظهر للنور . وحين ظهر ديوانه الاول ونشر بعضا من نصوصه تلقى التهاني وعبارات الاعجاب من 5000 قارئ مخلص , ومحب , وناقد , ومحلل . قلب الاسماء بدقة فلم يعثر على أسم (أدونيس ) بينها فحزن كثيرا . كان مستعدا لأستبدال جميع الكلمات التي سطرها له محبيه بكلمة واحدة من أدونيس . رغم ان بعض النقاد يروه اكثر شاعرية من أدونيس نفسه . بعد أشهر من عدم التوازن قطع تذكرة ب ( 600 دولار ) و طار الى بيروت لينتزع من أدونيس كلمة . التقط معه صورة وهو يحمل ديوانه وحاول بشتى السبل الحصول على أي اعتراف منه . لكن أدونيس كان بخيلا جدا معه . فاقد الشئ لا يعطيه . فأدونيس نفسه يبحث عمن يعترف به . وقد بعث أصدقاؤه ومسوقيه 5000 رسالة الى الاكاديمية السويدية لكنها لم تفتح أية واحدة منها . أما الشاعرالعراقي فهناك اكثر من 5000 عربي مثله يقفون في طابورعلى باب ادونيس .
..
..
زوج وزوجة أفنوا حياتهم وصرفوا كل ما عندهم للحصول على طفل . يحيطهم اناس فقراء محتاجون طيبون يحبونهم بصدق ويتألمون من أجلهم لكن الزوج وزوجته لم يصرفا فلسا واحدا عليهم وذهب مالهم الى الاطباء والمحتالين .
…
…
كاتب لا يعبر عدد قرائه حدود الزقاق الذي يعيش فيه لكنهم يفهمون كل حرف ينطقه ويمنحونه حبا صافيا لا غبار فيه . الكاتب يكافح من أجل أستبدال الزقاق بقارة أوربا و كندا و أمريكا اللاتينية وأستراليا و يتمنى ان يغزو روسيا وتتترجم أعماله الى الصينية والهندية والصربية . ليس العيب في كل هذا رغم أنه يتطلب جهدا ووقتا وقد لا يصل أليه لكنه حاليا يخسر الكثير فهو لايتمتع بأية كلمة من اصدقائه في الزقاق .