لم يكن قطارا، كان ذاكرة تختزن الكثير من الاحداث، معلم تراثي بكته الاراضي الزراعية التي تقع على ضفتيه، مختزن هناك في ذاكرة اجيال متعددة، صراخه وعواؤه الذي يسلب الفؤاد، او ينذر بفراق حبيب، كلما تقدم الزمان تتركز ذاكرة قطار الثورة، مع اسم المدينة اللذيذ، كان يحتوينا بعرباته الحديدية، يسمح لنا بمطالعة دروسنا فيه ذهابا وايابا، يحتمل منا الكثير، الحجارة التي كنا نلقيها عليه، والدراهم المعدنية التي نضعها على سكته العجوز.
كأنه حلم حين اسر لي علي ان القطار يمكن ان يخرج عن سكته، فتساءلت كيف؟ فقال: حين نضع على السكة الحشائش اليابسة( التبن) سينزلق ويقع على الارض، صدقت حديثه، وهرعت للمزارع المجاورة، جمعت ما استطيع جمعه ووضعته بانتظار القطار، لم يحدث شيء، فقط تطايرت الحشائش وانتهى الامر، لم انس عباس وكنا نسميه( عباس سحاره)، لكثرة مايقوم به من اعمال بهلوانية، كان ينط من القطار نزولا عند رغباتنا، لنتشبه بافلام الكابوي الاميركية، يقفز ويتدحرج على الارض وينهض مسرعا، شخصيتان اسرتا ذاكرتي، عباس سحارة الذي استشهد في الحرب العراقية الايرانية، وامجيدة المخبلهْ.
وامجيْده طفلة متخلفة عقليا، كانت تلعب معنا، وهي من رواد قطار الثورة، كبرت امجيده وكبرنا معها، صارت ترتاد حفلات الاعراس وترقص مجانا، وهي صديقة الكل، حتى البعثيين لم يكونوا يعترضوا على ماتقول، ولا انسى ماقالته لرفيق ناهي وكان ذا كرش كبير: رفيق ناهي… من حبّلك، فرد بتهكم… وضحك.. الله، كنا ندخن السكائر، فمن سوء حظنا ان شركة ومعمل سكائر سومر، حط بقرب سكة القطار، فكنا نجمع مايلقون من سكائر مضروبة ونقوم بتدخينها، ويوم بعد يوم صرنا نشتري السكائر بعد ان بدأنا نكبر ونخجل من الذهاب الى المزابل.
ايه ايتها الذاكرة كم تحملين من الاموات، دكتور طالب الذي كان يشاركني بحثي المستمر في نفايات معمل سكائر سومر، وكان يدخنها بنهم كبير، صار طبيبا بيطريا وقتل في اليوسفية بعد 2003 في حرب طائفية قذرة، الذاكرة تزدحم بالاموات لكنها تخجل ان تبوح بكل شيء، لم تكن المسافة التي تبعدني عن قطار الثورة سوى مئة او مئتي متر، كانت قضبان الحديد الذي تحمله هي متنزهي الاول، وهناك كانت امجيدهْ المخبله التي عانت من زوجة الاب ماعانت ، فصارت تجوب الطرقات بحثا عن الطعام والسكائر التي كنا نعشقها منذ الصغر، تطورت امجيدهْ وصارت تماشي
من هم اكبر منا سنا، وكنا نخاف عليها منهم لان الحمير لم تسلم من شبقهم ، فكيف بانسانة تمتلك ماتمتلك النساء، نصحناها مرات عديدة، لكنها لاتعي مانقول وتسخر هازئة وتذهب، لتنتقم من اول بعثي يقابلها، كانت تعيرهم بشواربهم الكثة التي تشبه الى حد كبير 8شباط، يا لسرعة امجيدهْ في البديهة والتي تحيرني في بعض الاحيان فاثق بانها عاقلة، لكنها لاتتحمل ان تحيا هذه الحياة بعقل كامل.
عانت من ابيها وامرأة ابيها التي شردتها في الطرقات، فكانت تعشق الجلوس مع الحلوين كما تسميهم هي، تلتهم السكائر ليصل بها الامر ان تتناول المشروبات في بعض الحفلات وترقص بنهم كبير، لم نكد نرى اختفاء قطار الثورة وصدأ سكته الاثيرة، حتى سمعنا بان امجيدهْ قد قتلت، قتلها اخوها بعد ان علم بانها حامل، خنقها ( بصوندة الماء)، وكانت تصرخ وتستغيث، لكنها رحلت عن عالم مشبوه يعاقب الضحية ويترك القاتل يمرح بكل حرية، هكذا تزدحم الذاكرة بالبكاء والعويل، وهكذا تستنجد في بعض الاحيان بالكلمات، كنا سجناء حدود مدينتنا الفقيرة، نصرخ باعلى اصواتنا ومنذ الصغر: الانسان ثروة كبيرة، فكان الجميع يضحك منا ويمتهن الحياة، ليغادرنا قطار الثورة مع احلام الطفولة والمراهقة لتصدأ قضبان الحديد، وليصرخ شاعر كبير: بعدك سجّهْ يصويحب جزاني الريلْ.