24 ديسمبر، 2024 4:35 ص

مطرٌ…مطرٌ. منذ شهر ما فتئتِ السماء ماطرة، تحتشدُ بالغيم: سوداء رمادية، دانية عالية، والشمسُ مهزولة تبزغُ وتختفي. من دون أن تُصافح وجوه الحيوات التي اعتادت ذا المناخ الممطر. صيفٌ لا يبدو صيفاً فقد غشيته المياهُ، وعاد الناسُ الى حمل المظلات. بعضُ الشباب لا يكترثون بماء السماء. وبدت الصدورُ والسيقانُ والبطون لدنةً قويّة طريّة. والوجوه زاخرة بالابتسامات.

في يوم ما انقطع هطول المطر، وباتت الشمسُ تظهر أحيانا وتختفي حيناً، وفيما كنتُ مارّاً أمام مبنى من عدة طبقات وينطوي على عديد من الشقق لمحتُ امرأة تبدو خلل النافذة المفتوحة مثل زهرة باهرة الحسن. والنافذة بكلّ معالمها/ هي واصص الورد والإطار الأزرق/ اشبهُ بلوحة تشكيلية. المرأةُ تنظّفُ الزجاج تارةً وتسقي أزهارها تارةً اخرى. وترمي اليّ/ الى الكائن الوحيد المار أمامها/ نظرات لامبالية. فمَنْ أكون أنا حتى الفتَ انتباهها؟ وخلتُني ابانئذ روميو شكسبير تحت الشرفة التي تضمُّ قامة جوليت. لكنّي لستُ مثله عاشقاً تيّمه العشقُ، وفي مُكنتي أن أتبادل معها الحوارُوالنظر. كنتُ أتمنّى لو تلتفتُ نحوي وترميني بنظرة حانية. لكنْ، مَنْ أكون حتى تجهد نفسها. سيأتي صديقها، أو تذهبُ هي اليه. ليتبادلا الحبّ من دون مشقة أو سهد. الحبُّ

عندهما مثلُ الطعام والشراب،اذا أحسّا به انغمسا فيه ومارساه، ثمّ تنتهي لحظاتُ الحريق. فلمَ الجنونُ والضنى والرسائل؟ ولمَ السهد والأرق اللذان يهدّان الجسد؟ وكلّ ما يتمنيان دانٍ وممكنٌ. وقبل أن ابتعد رميتُها بنظرة خاطفة. فواصلتُ طريقي، لكنّ قلبي ما زال ثمة. تخيّلتُ : أني عدتُ اليها، وقفتُ تحت النافذة ,هي ترميني بابتسامة دافئة خلل رموشها السوداء الطويلة التي تؤطّرُ عينين رماديتين وسيعتين. والوجهُ مكتظٌ بالشوق. وتمنيّتُ لوأنّها ترفعُ يدها وتُحييني. تنثرُ عليّ بسمات أطرى من زهراتها المزدحمات في النافذة. وأراني اخرجُ من جيبي ورقة صغيرة أدوّنُ فيها سطرين، أكوّرُها وأرميها اليها. تلتقطُها ببراعة وتقرؤها، فتهزّ رأسها وترميني بقبلة. الهي،، ما أجملها من صورة بثوبها الأصفر، وصدرها المفتوح بلون العاج، ووجهها الأنور من صباح فتيّ..اذاً، سنلتقي غداً. أعبرٌ الشارع الى الجهة المقابلة حذراً لئلا تُداهمني مركبةٌ، ذي هي تجيءُ رشيقة خفيفة باسقة ينوسُ شعرها السنبلي يميناً وشمالاً، تقتربُ منّي، تمدّ يدها اليّ، أضعها داخل يدي، أكادُ اتحسسُ نبضاتها المتسارعة. كأنّها زهرة بثوبها الأصفر. وتهمس بودّ: / ذي أنا ملكُ يديك/.. لا، لن أرضى بحبّ يعنُّ بهذه السهولة. أعودُ ثانية الى النافذة، تخطفُ الورقة المُكوّرة، تقرؤها، تغيب هنيهة وتعود، وأقرأ كلماتها:/ ساسافرُ الى مالمو، أمّي مريضة، عدْ بعد أسبوع…. وأعود، وأراها واقفة تسقي أزهارها، وترمقني بنظرة آسرة:/ مرحباً، هل تستطيع الانتظار قليلاً ؟/ نعم، بكل تأكيد/..خلال لحظات هلّت عليّ من فتحة الباب مثل امنية، ترتدي الثوب الأصفر ذاته.

تأبطت ذراعي وتوجهنا نحو الحديقة العامة.هي في الأربعين، لكنّها تبدو أصغر من سنّها. احتوى قامتينا الفضاء الأخضر، توقفنا جوار أقفاص الطيور، القفص الكبير ينطوي على طاووسين وبضع دجاجات وديك ضخم ابيض، ثمّ طائر افريقي غريب، ريشُه مزيج من الألوان، بنيّة صفراء بيضاء حمراء. الديك مُنشغل بنبش التربة بمخالبه القويّة، يستخرج حبات مجهولة من طيات التربة ويتركها للدجاجات. قالت صاحبتي:/ أنه اكثرُ وفاءً من الرجال/.. استغربنا، مجموعة من الطيور تعيش معاً في وتئام، ولا يعتدي بعضٌ على آخر. في القفص الثاني طيور ملوّنة ترمي اسماعنا بزقزقات ناغمة. تطير داخل فضاء القفص المنطوي أيضاً على شجرة يبيسة ذات اغصان متفرعة. وقبالتنا في الطرف الثاني امرأة بصحبة عربة طفلها الناظر بنشوة الى هذه المخلوقات الصغيرة، ولصق عربة الطفل كلب ذو شعر كستنائي يشاركهما في التأمل ويُحرك ذيله فرحاً. ثمّ، توغلنا في عمق الحديقة، وقفنا لحظات لصق تمثال المرأة العارية. قالت صاحبتي:/ أليست جميلة؟/../ بلى، كأني بها تريدنا أن نراها هكذا كما ولدتها امّها/ مدّت صاحبتي يدها وأمررت اصابعها فوق الصرة وما دونها. ثمّ غادرناه. وعرفتُ من خلال حديثها أنها موظفة في احدى الدوائر، انفصلت عن زوجها بعد عامين. ولها عددٌ من الصديقات والأصدقاء، لم توطّد علاقتها برجل مُعيّن. وذي هي مع الرجل الغريب يجوسان خلل المتنزّه. كان يُطوّق بذراعه خصرها يقفان جنب سياج واطيء يتأملان مياه البحيرة. المزدحمة بالبط والبجع وطيور الماء، وحين تركا

البحيرة التقت عيناهما ثلاث بطات نائمات بشكل غريب،وكونت كتلة غرائبية حيث وضعت كلّ واحدة رأسها في حضن الأخرى، ترى مَنْ علمها تشكيل هذا المرأى الجميل. هنا وطنٌ لا تخافُ فيه الطيور، تراها في الشارع والساحة ولصق المقاهي. لكن عمر السعادة قصير فتركا الحديقة متّجهين تُجاه شقتها. وكان المساء، وستكون جريئة تدعوه الى تناول العشاء في شقتها، قبالة باب المبنى همست بخجل: ما رأيُك أن نتعشى معاً في شقتي؟ هزّ رأسه موافقاً. فتحت الباب وتسرّب وراءها الى الداخل. الى فسحة فيها مائدة صغيرة وثلاثة كراس. اقتربا من النافذة، ورأيا الخارج: / كنتَ تقفُ هناك / اشارت الى مكان وقوفه. جلس فوق احد الكراسي، ثمّ اضافت: سأهيءُ لنا عشاءً خفيفاً، هل أنت جائعٌ؟/ هزّ رأسه : / نعم، كأنّي لم اتناول طعاماً منذ دهر/….

حين عادت جلبت معها سندويجاً خفيفاً وكأساً من العصير، وضعتهما على المائدة، هكذا هي دوماً تجلسُ وحدَها اثناء الفطور والعشاء، تقرأ أحياناُ وتشاهد التلفاز،وقد تنام مبكرة وتصحو مبكرة. حين انتهت من عشائها وقفت لصق النافذة وهمست: كان يقف هناك وينظر اليّ، تُرى مَنْ يكونُ؟

…………………..

مُباركٌ هذا النهارُ، اباركُ الشمس والشجر والسماء والغيوم البيض تمخر في المحيط الأزرق مثل جبال عملاقة.قبل قليل أنهيتُ فطوري، ولم تزل صورُ الأمس تمورُ في رأسي، المرأةُ

العجوز طريحة الفراش، والخادمةُ استيقظت من نومها، طوت فراشها وانسلت الى المطبخ. فيما كنتُ اجلس جوار منضدة عالية عليها رسومات طفل فنّان. بطة زرقاء في مياه صفراء، طائرٌ طحلبي مخملي لم ترَعيني مثله، وبيت بنّي يصعدُ من مدخنته دخانٌ أحمر….لا شجرَ ولا وردَ، لا طرق ولا وجوه. وكان الطفلُ الذي رسم كل هذا هو أنا.أرسمُ وأقرأ واغنّي وأنا جالسٌ فوق درجة من الدرجات المفضية الى السطح. امضي جلّ وقتي ثمة. فجأةً نزل طفل من سطحنا، تغشى وجهه بثور يابسة. لكنّ شعره كان أحمر. بيده مدالية برونزية، يحمل احدُ وجهيه زخارف ورسومات دقيقة، لم اتبيّنها جيداً، والوجهُ الآخر رقمَ 56، هبط بسرعة الى الفناء وغادر بيتنا.فما عرفتُ ابداً لغزه ولا لغز مداليته .

في مشهد آخر وجدتُني نائما في الفناء، حين صحوتُ مددتُ يدي تحت وسادتي والتقطت دفتراً وقلما وجعلتُ اسجل ما تمرأى لي في احلامي. ثم غادرتُ الى جهة مجهولة. وفي مكان آخر رأيتها، نظرتني بلامبالاة، قلتُ مع نفسي: لعلّها تتذكرني، لكنْ، كيف يتذكرُ انسانٌ آخرَ يمرّ تحت نافذته؟ رفعتُ عينيّ نحوها، رمقتُها بسرعة، بيد أنها ابتسمت لي. تحدّثت مع صديقتها الموظفة،ثمّ خاطبتني: / أنت تُشبه أخي، استرعيتَ انتباهي وأنت تمرّ أمام نافذتي/ حين تركتُ المكان لحقتني، سرنا هنيهة معاً، قلتُ يُسعدني أني تعرّفتُك، ما رأيُك أن نلتقي مرةً أخرى وسأدعوك الى غداء خفيف/ حسناً، ما رأيك في المطعم القريب من امرأة العشب قبالة المكتبة “1”

ظهرت امرأةُ النافذة، وأنا جالس جوار مائدة تشرف على الساحة، وخلف تمثال العشب جلسنا، ومضت الساعتان كلمح البصر، ولعلّي كنتُ اسيح في حلم، فلم يسبق لي أن التقيتُ امرأة بمثل هذه السهولة. هنا العلاقاتُ الإنسانية سلسةٌ ٌ تتحققُ عبر ثقة متبادلة. أغلبُ الظن أنّ هذا اللقاء هو البداية،

قريباً من المساء اوصلتها الى باب شقتها. عدتُ وحدي، تُرى كيف سيكون لونُ لقائنا القابل؟

——————————————————

1 – امرأةُ العشب لها رأسٌ كبير وصدرٌ يحملُ كرتين ضخمتين. تجلس في وقار وسط مساحة مربعة تكتظ بحصوات حمر وبيض وبنيّة، يكسوها عشبٌ أخضر ناعمٌ، تحمل في احدى يديها باقة زهر بيضاء، يقوم على سقيها عمالٌ، هي من عمل امرأة عجوز بارعة، داهمتها حافلة الركاب قبل أيام فأزهقت روحها..