كثيراً ما يُخالط أسماعنا أحاديث متشدقه وخطابات رنانة عن إننا بلد الحضارة والعمارة والنهضة والتاريخ والتقدم واننا اول من سن قانون للبشرية, وإنْ حضارتنا هي من علمت الناس القراءة والكتابة, وإننا منتدى الثقافة .. ومنبر العلم .. منصة الابداع .. ودرع الفن .. وحواضر الوعي .. ورحم الصناديد .. ومقبرة الجهل .. ومكتبة التطور .. وحصن النصر, ودار السلام .. ومصنع الرجال, ودورة الأبطال, والأقوال والأفعال, والتهريج الذي لا تنتهي دورته, ويبدو لنا للوهلة الأولى إننا لسنا عرب الهوية, ولسنا من مجتمع ما زال الناس فيها يشربون مياه السيّان, ويطهون الاكل بطريقة بدائية تعود للإنسان الحجري القديم, ويتيممون صعيداً طيباً, في بلد الرافدين يموت الناس عطشى (!), وفي وطن الثروة والبترول الملايين تقف على خط الفقر على مسافة واحدة, وفي بلد الحريات تنتهك الحُرمات, وفي زمن الشرف تغتصب النساء وتُفض البكارات, وفي بلد الصحابة والأولياء تُهان المحرمات وتدنس المقدسات, وتفنى القيم ويزول الوئام, نحارب ضد الدم في حرب البسوس, وكأن جساس هو قمة ثأرنا (!) نتخاصم على مال بدو لا ناقة لنا ولا جمل, في حرب أهلية خاسرة, لا رابح فيها إلا الأجنبي والغريب!
أنْ اي حديث عن الحضارة والتطور لا بد أن يبدأ من العراق وأنْ ينهي به .. هذا في السياق التاريخي السردي النظري الذي تعلمنا في مدارسنا الابتدائية وما قرأناه وأخذنا درساً هاماً من القراءة الخلدونية وصولاً إلى موسوعة الويكيبيديا والكوكل والكوكل كروم (!) .. لكن عندما شبنا وكبرنا أضحت كلها أكاذيب ملفقة من معلمينا واتضح زيف ادعاءاتهم, وتبين إننا لا نصلح إلا لغسل الصحون وأكل فضلات الاخرين, فالمتاحف سرقها اللصوص, والأثار باعها علي بابا والثلاثمائة وخمسة وعشرون نائب عفوا حرامي (!), ودار السلام صارت دار السلاح (!), ونحن نسير “نحو الأمية” بدل من “محو الأمية” (!), لقد أصبحنا نخجل من كشف هوياتنا للأخرين, صرنا نخجل من أنفسنا ونحن ندلي باسم وطننا لضباط الجمارك والتشريفات في كل محطات ومطارات العالم, صار الوطن بحد ذاته وصمة عار علينا!
أين نحن من هذا الواقع الموجع .. أنا لا اود رؤية حقيقتنا .. مؤلم جداً أن نتعرف على واقعنا المرير, فالعربي يتردد ويتخوّف من التعرف على هوية واقعه, كالذي يتعرف على جثة مشوهة برصاصات الغدر, وأكثر (!) ثم يرفع شأفة رأسه متوجساً, مفزوعاً, خائفاً من ذاته أن تتحول إلى مشروع طائفي !
حينما نطالع ماضينا في سطور المعرفة العلمية نجد اننا شعوب أم الحضارة .. وأم النهضة .. وأم التقدم .. لكن على الطرف الأخر الموضوعي والواقع العملي المُعاش فإننا ليس إلا مجرد أم المعارك .. أم الأرامل .. أم النوائح .. أم القهر .. أم المعاناة .. أم الحرائب الناعبات وهن يمارسن العويل بقساوة, وأمهاتنا اللائي لا يجدن إلا النياح قوتاً يفطرن عليه في صومهن الدائم عن الفرح !
والأطفال تنبت براعم طفولتهم في براميل القمامة, .. وفي اكياس السوداء نُكفن الكثيرون من أبناءنا تحت دوي قذائف التكفير وقصف الصواريخ الطائفية الرعناء, في زمن الكل أرتدى خوذة الطائفية, ولم يبق هنا شيء وطني إلا صواريخ (الباتريوت) التي تعني في معجم القواميس بالوطني (!), يا ويلتاه على وطن يستورد الأكفان ويصدر الجثث, يشتري السلاح ويبع السلام, ما أقبح هذه التجارة الخاسرة, الكل يتاجر بالكل, والكل يخوض حرب باسم الرب, لقد صار الرب لعبة شيوخ المودرن, يتاجرون به وبمقدساته وبنصوصه الدينية, في عالم صار اللصوص هو مُفسري النصوص.
مذ أكثر من عشرون عاماً والانقطاع الحضاري يحافظ على صدارته في مجتمعاتنا, ويحافظ على كيانه ومكانته, حتى اللحظة, أمة معتقلة في زنازين حريتها, ومدفونة في قبور ديمقراطيتها, كيف يُقر الأمن وراعي السلام راعي بقر (كاوبوي), إن المدهش والملفت للنظر هو أن يقود العالم رعيان, لما لا ونحن أمة كفصيل مشاة, حين يقل لها إلى الوراء دّر, فوقتئذ لن يتصدر ويقود الرهط والفصيل إلا العوران والعجزة والمتذمرون (!), لما لا راعي سلام وديمقراطية العالم هو جندي فارٍ من حرب فيتنام !!
لم تعد عندنا حِضَّارة لقد تم طليّ كل شعاراتها وملامحها بطلاء زاهي ذو ماركة مسجلة, وتحولت المتاحف والأثار إلى ملاعب أطفال, وقطع غيار وأكداس قمامة, ونقلت ملكيتها من ذمة حضارة إلى دور حضانة لتربية الأطفال والمواليد الجُدَّد !
بل صرنا بلد (حِضّانة وادي الرافدين) لرعاية الأطفال الخُدج, والشراذم والنازحين والمقطوعي من شجرة القبيلة!!