الدكتور غسان العطية واحد من أبرز الأصوات العراقية النقية ، الذي طالما انتزع إعجابنا بطروحاته الوطنية ، واستقطب تعاطفنا مع أفكاره العقلانية ، أطل علينا مؤخرا”عبر شاشة (الشرقية نيوز) ضمن حوار شيق ، أثار من خلاله هواجسنا واستنهض شجوننا ، ليس فقط حيال حاضر الدولة العراقية من حيث كونها مؤسسة سيادية عليا يراد منها أن تكون حاضنة لتيارات سياسية مختلفة المواقف والأهداف فحسب ، بل وكذلك إزاء مستقبل المجتمع العراقي من حيث كونه خيمة تجمع تحت سقفها جماعات قومية ودينية متباينة المصالح والتوجهات أبضا”. وكما هي عادته فقد تطرق (العطية) إلى مواضيع غاية في الخطورة والحساسية ، متأملا”من خلالها إشعار المسؤولين المتاجرين بدماء العراقيين بجسامة العقبات التي ينبغي عليهم مواجهتها والتغلب عليها ، إذا ما أرادوا حقا”أن يكونوا بناة دولة ومؤسسي مجتمع من جهة ، وإثارة حفيظة المواطن المستقطب عرقيا”والمستنفر طائفيا”إزاء ما قد يتحمله من مثالب وعواقب ، لا تطال فقط حاضره الشخصي ومصيره العائلي كمواطن يحتاج أن يعيش في دولة توفر له الأمان وتتيح له الإحساس بكرامته الإنسانية فحسب ، وإنما ستنعكس سلبا”على مستقبل أحفاده وأجياله باعتبارهم حملة تراثه وحفظة تاريخه وأرشفة ذاكرته كذلك من جهة أخرى . وعلى الرغم من إدراك الأستاذ (العطية) لعمق الكارثة العراقية وتشعب عناصرها وتداخل مكوناتها ، فضلا”عن استيعابه الواعي لطبيعة الأطراف الفاعلة فيها والمنفعلة منها ، فهو كوطني حقيقي وعراقي أصيل لم يبرح يراهن على بقايا حمية وطنية وشظايا نزعة عقلية ، عسى ولعل أن تشكل باكورة (صحوة) عراقية تعيد للواقع توازنه وللمجتمع وحدته وللوعي عقلانيته . بحيث طرح هذه المرة فكرة جسورة هي أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة ، وأدنى إلى الطوبى منها إلى الواقع مؤداها ؛ انه بدلا”من تشظي المكون العربي داخل العراق إلى أجنحة متصارعة على أسس طائفية (سنية وشيعية) ، فان الضرورة الوطنية والتاريخية تقتضي أن يصار إلى نبذ تلك الأجنحة لصراعاتها العبثية ، والشروع بتشكيل اتحاد قومي /عربي يكون بمثابة نواة استقطاب مركزي ، لا تسهم فقط في لم شتات بقية الجماعات والمكونات العراقية المتناثرة بحسب الانتماءات الفرعية والولاءات الهامشية فحسب ، وإنما تعيد للدولة سلطتها المبتورة ، وللقوانين هيبتها المهدورة ، وللمؤسسات أرجحتها المغدورة ، على خلفية كونها الكتلة البشرية الأكبر في النسيج الاجتماعي العراقي ، وإلاّ فان الإبادة الإنسانية والفناء الحضاري سيكون مصير الجميع دون استثناء . والحقيقة إن هذه الفكرة هي حلم كل عراقي غيور على أمن وطنه وحريص على سلامة شعبه ، بيد أنه شتان ما بين أضغاث الأحلام وأحداث الواقع ، لاسيما وان المعطيات الفعلية لا تحدثنا فقط عن سعة البون وبعد الشقة بين طوائف المكون العربي .
بعيد إفرازات الغزو الأمريكي الغاشم ومخلفات تدخل القوى الإقليمية السافر على النسيج الاجتماعي لهذا المكون فحسب ، بل وتعزز لدينا القناعة – يوما”بعد الآخر – إن أي محاولة لتقريب المسافة وردم الهوة بين شقي ذلك المكون محكوم عليها بالفشل الذريع مسبقا”. ولكن لماذا وصل الأمر لهذا الحد من القطيعة السوسيولوجية والانفصام السيكولوجي ، بحيث بات من رابع المستحيلات إعادة وصل ما انفصمت عراه وتقطعت روابطه ؟؟!! . لا يخفى إن الاختلاف الطائفي ضمن الدين الواحد ، هو من أخطر وأصعب أنواع الاختلافات التي قد تواجه مجتمع من المجتمعات ، بعكس ما قد يتمخض عن الاختلافات القومية والاثنية من تداعيات اجتماعية وتوترات سياسية . ليس فقط بسبب كون الأولى (الخلافات الطائفية) تجنح بالفاعل الاجتماعي صوب التطرف في الرؤى والعنف في السلوكيات – وهذا بحدّ ذاته كاف ليشكل خطورة لا يمكن توقع عواقبها – فحسب ، وإنما كذلك لأنها تعمد في العادة إلى تسييس المقدس وزجه ، من ثم ، في أتون صراعات تكفيرية وخطابات تخوينية لا حدود لضراوتها ولا محرمات لقساوتها . ومما يضاعف تأزم العلاقات وتفاقم الخلافات الطائفية في الحالة العراقية ، كونها باتت أداة ناجعة لتسويات إقليمية ومساومات دولية ظاهرة ومضمرة ، بحيث لم تبقى محصورة ضمن إطار المجتمع العراقي ، الأمر الذي يمكن للأعراف الاجتماعية والقيم الأخلاقية والتواضعات العرفية ، أن تلعب دورا”بناءا”في تخفيف زخم غلواء الكراهيات والحساسيات ذات الطابع الطائفي ، وتكون بالتالي بمثابة صمام الأمان حيال التوترات النفسية الانفجارات الاجتماعية . وهكذا فالإشكالية العراقية تبدو من التعقيد والتركيب ، بحيث إن أي محاولة تستهدف تفكيك عناصرها وتسليك مساراتها ستواجه الفشل لا محالة ، وذلك لأن جذر الإشكالية يمتح من نسغ الذوات الطائفية عينها ، وتستمد التأجج من مخزون الخرافات الأساطير نفسها ، للحد الذي أضحت فيه كل طائفة لا تنظر إلى غيرها / آخرها ، إلاّ كجحيم ينبغي إخماده ، أو كشيطان ينبغي استئصاله !!. أفبعد كل هذه الأوهام المتراكمة والأباطيل المتقادمة نحلم أن تكون لنا صحوة ؟؟ . هيهات ثم هيهات أيها الأستاذ الجليل !! .