من عادتنا أن نستقبل الشخصيات الوطنية في أعراسنا بزفّة واحترام وعناق وحب.. لكن أن يتحول صاحب العرس الذي يُبرز نفسه كالطاؤوس في الساحة الوطنية متفاخرا بعلاقاته الوثيقة مع شخصيات وطنية، إلى عناق وتبجيل وترحيب فوق العادة بعرسٍ يخصُّ أحد أبنائه بشخصية تتنكّر لهويتها القومية وتؤيّد أكثر مواقف اليمين الفاشي في إسرائيل تطرّفا، بل وان يطلب من المغني الترحيب بمثل هذا الضيف ويعطى بشكل غير مسبوق منصّة ليلقي تهنئة كسر فيها اللغة العربية وأهانها بأسلوب نطقه، وذلك بحضور قوى وطنية شريفة،ظلت صاكتة كأن على رؤوسها الطير، او اصيت بحالة انفصام مؤقتة من هول المسرحية غير المتوقعة الني هبطت على رؤوسهم ككارثة طبيعية.
كثر الهمس والغمز من بعض الحضور وبان ألاشمئزاز على بعض الوجوه وبرر بعضهم أن أنسباء صاحب العرس هم الداعون لتلك الآفة..لكنهم لم يفسروا ألاستقبال بالأحضان والعناق وكيف صارت طاولته أشبة بالسكر الذي يتجمع الذباب حوله.
لا باس أن يُستقبل باحترام مثل سائر المدعوين.. أما الإحاطة به وكأنه شخص يتجاوز بقيمته سائر المدعوين، فهذا أمر لا يمكن أن يتحمّله إلا إنسان هلامي بدون عقل وبدون أعصاب.
كلما رأيت صاحب العرس منفوخا وهو يتظاهر بالوطنية، وانه جليس الزعماء، ولا تخلو طاولته من الويسكي في زياراتهم لبيته كما يتفاخر، أصاب برغبة أن أذكّره بعناق تلك الآفة السياسية النكرة.. أن لا يبيعنا مواقف شريفة في ظاهرها وقذرة من وراء الكواليس.
للأسف بعض الوطنيين المخلصين ومنهم أصحاب مناصب هامة في السلطات المحلية مثلا، لا يترددوا عن تسيير شؤونه حتى ضد القانون، يتوهّمون ان حقيقته هي ما يطفو على السطح. لو حضروا ذلك العرس الذي استبعدهم منه بقصد كما أظن، لما جعلوه يمرّ بقربهم..
الحادث وقع قبل فترة زمنية ليست بعيدة، حاولت ان لا أسجّلها في يومياتي. لكني سأخون قلمي ودوري كمثقف إذا لم أحذّر من هذه الظاهرة.. تحويل الأعراس الى مهرجانات سياسية، قد نقبل (حتى على مضض) شخصا وطنيا، ولكن من المستحيل ان يُفرض علينا عناقُ وتبجيلُ من يرفض مجرّد الانتماء لقوميته.
شعرت بالإهانة والمهانة ، نظرت الى الوجوه حولي فرأيتها شاحبة، لم أتوقع مثل هذه المهزلة حتى في أسوأ أحلامي… ما زالت تدوي بضميري رغم اني لم أقبل الإهانة وغادرت الحفل بعد انتهاء الفصل الأول من “الكابوس الكافكائي”.
الحكاية: حلّ ضيف على حفل.. دخل مع حرسه الملكي.. ليكودي يميني متطرّف، استقبله أصحاب العرس استقبال الفاتحين، رحّب به المغني قليل العقل، التبجيل والتكريم الذي استقبل به أثار رغبتي بالتقيؤ. كأن مئات الحضور في كفة وحضرته في كفة أخرى وزنها بالترحيب والتكريم جعلها تتغلب على الكفة الأخرى. “لو عرفت انه مدعو لما حضرت” قلت لقريب له.. فأجابني بالصمت. آخر برّر ان أنسباء صاحبنا هم أصحاب الدعوة. علقت بتوتر: كنت سألغي العرس ولن استقبل آفة من هذا النوع.. أو مرغما أخاك لا بطل.. أستقبله بنفس مستوى استقبالي للآخرين ولا أجعله محور الحفلة !!
طبعا بان على صاحبنا الإحساس بالنجومية، امتدت ابتسامته على نصف دائرة كاملة.. بعد لحظات كانت مفاجأة أكثر سوءا. دعي للمنصة ليدلي بما في جرابه، غرق الحضور بصمت مطبق وذهول عميق وربما بنوع من اللخمة.. أو الحيرة من حالة مزرية.. أو مصيبة لا دخل لهم فيها.
أمسك حضرته الميكروفون وهو يبتسم بسرور ظاهر ويوزّع نظراته وكأنه مشارك في مسابقة “العرب آيدول” توقعت ان يصدح صوته بأغنية “جفنه علم الغزل”.. لكنه واصل التعبير عن فرحته بالابتسامات الدائرية والتمايل يمينا وشمالا (ليس يسارا لأن حضرته يكره اليسار!) غمغم بكلمات غير واضحة، واصل التمايل فأيقنت اننا سنسمع منه أغنية عجرمية، توقعت ان تكون “آه ونص” – “نس” كما تلفظها الأمورة نانسي عجرم، ربما سيجلس وراء الطشت كاشفا عن “محاسنه”.. لكنه واصل الابتسام، فهل أصابه سوء من استقبال الناس البارد؟ لم تطل حيرتنا ففتح الله عليه بكلمات تهنئة للعروسين والأهل. جاءت جمله مكسرة تحتاج إلى تجبير.. من الصعب للأذن احتمالها كلغة عربية. توقعت بعد الانتهاء من تهنئته ان يسارع بعض قليلي العقل لرفعه فوق أكتافهم والرقص به محملا أسوة بالشخصيات الوطنية .. فهو “زعيم خطير” ووزنه ثقيل على القبان أيضا.. له تصريحات بالراديو والصحافة المختلفة ولمن يريد واسطة هو عنوان جيد!!
في الحقيقة رأيت اسوداداً غريبا في الوجوه، سألت أحدهم ساخرا: أين الشباب ليحملوا الزعيم؟!
رد حانقا: ما تزال بقية من كرامة!!
سألت: أين هي ؟!
فلم أتلق جوابا!!
انسحبت من “الكابوس” مغموما وشعور بالقرف يغمرني… لكني مضطر أن أقول لكل أصحاب الأعراس: اجعلوا أعراسكم لجميع المدعوين. الناس هي نجوم حفلاتكم. “الزعماء” من شاكلته إهانة لضيوفكم. إن حذاء إنسان مغمور يقوم بالواجب في أفراحكم أشرف من بعض “الزعماء”. لا تهينوا المدعوين بجعل احدهم مهما كان “نجما” مفروضا منكم عليهم. الناس تكرم من تثق بوطنيته وشرفه حتى بدون اهتمامكم وتبجيلكم وتحويل المنصة لعرض يثير التقزّز في النفس الشريفة.