يسعى الكثيرون من الساسة واصحاب المصالح والانتهازيون الى تغييب الحقيقة أو طمس ولو جزءا من معالمها لأنها تكشف زيف الآخرين وخواءهم الفكري في مجمل القضايا، وخاصة إذا كانت تلك الحقيقة تمثل منهج وفكر امة ومعينا يغترف منه، لكن مهما طال الزمن لابد من ان تسطع شمس العدالة وتجلي الغبار عن كل شيء….
وعندما نتناول جانبا من شخصية دينية كبيرة ورمزا من الرموز الفكرية في المرجعيات بل مرجعية يشهد لها بكثرة الاتباع على مختلف الاجناس والالوان والأماكن والبلدان، يجب أن نضع في اعتباراتنا الفكرية والثقافية اننا لانقدم شيئا مقابل هذا الجبل الشامخ بل ستعم الفائدة ذواتنا واقلامنا لما تغنينا هذه التجربة من ثر عطائها وخزين نافع علمها ولآليء وجواهر كتبها….
وقد تعد مجازفة يحاول أي كاتب أن يلج في هذا العالم المعرفي الموسوعي الكبير، خاصة ونحن نكتب عن شخصية المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي وبحسبة مبسطة لعمره الشريف وعديد مؤلفاته لوجدنا انه لايمر يوم من حياته الا وقد اظهر الى النور كتابا… هذه الشخصية الرسالية التي وضعت معنى للهدف ورسمت حدود التحرك ضمن الخط الاسلامي عالميا منبهة الامة لما سوف يحصل، فهناك صعوبة بالغة في سبر الاغوار المعرفية للإمام الشيرازي وهو الذي عرف بسلطان المؤلفين بكثرة انتاجه وغزارة علمه وسعة معرفته حيث تجاوزت مؤلفاته الالف ويكفي القول انه بدأ بتأليف (موسوعة الفقه) وهو في الخامسة والعشرين من عمره ووصل تصنيفها إلى حوالي (165) مجلداّ، وكان مبدؤه في الحياة السلم واللاعنف وتحكيم الأخوة الاسلامية والحوار الحر والتعددية السياسية وشورى المراجع، وقد لخص علماء زمانه صفاته بما يأتي (ذاكرة واعية وبديهة حاضرة وعقل سليم وإتزان في العلم والفقه والحلم وضبط النفس والاستمرارية والمواصلة والمثابرة في العمل والصدق مع نفسه ولم يخضع للضغوط التي حاولت أن تثنيه عن تطبيق الافكار والرؤى التي قرر مع نفسه تكريسها في الامة).
فقد كان يرى (رض) إن معركته الاساسية هي الحرب المستمرة ضد الاستبداد والاستعمار وإن الحرية هي المبدأ الأول الذي يجب أن ينطلق منه المشروع التغييري الاصلاحي للامة، لقد كانت الحرية متشربة في ذاته وعقله وفكره وهو الذي وضع نظرية الشورى والتعددية وشورى الفقهاء مما جعله يتميز بالشخصية المبدعة الخلاقة، فأصبحت مرجعيته الرشيدة تتميز بعالميتها وحضورها الانساني والاخلاقي لتصل الى اقصى نقطة في العالم، فكان يفهم الحقائق ولديه وعي سياسي يتجاوز حدود المنظور والمعمول والمعروف والمشهور، فهذه مناداته بتطبيق مبدأ الشورى وجعله ركنا من إركان الحكومة الإسلامية، واعتبار الناس اصحاب الحق بأموالهم وانفسهم ولايمكن لأحد أن يتسلط عليهم الا برخصة مسبقة، عند ذاك يكون للحاكم الحق في ادارة شؤونهم، ومن اقواله الخالدة (الحاكم الاسلامي رجل مؤمن يفقه الدين تماما ويعرف شؤون الدنيا ويتحلى بالعدالة التامة)، ويقول أيضا (قدس سره)(أحيانا تكون الدكتاتورية بحجم كبير جداّ فيخاف الناس أن يقابلها، لكن يجب أن يعلم الانسان إن الدكتاتورية مهما كانت كبيرة الحجم فانها (خُشُبٌ مُسّندة) و(وأن لاييأس من روح الله).
كيف نفهم التغيير وماهيته في فكر الامام الشيرازي؟
سعى الامام الشيرازي في مفهوم التغيير الى العمل بكتاب الله والالتزام بأحكامه واضعا الهدف الاسمى (الدولة الواحدة) استناداّ الى الآية الكريمة (وإن هذه امتكم امة واحدة) المؤمنون اية(52) والاخوة الاسلامية (إنما المؤمنون اخوة)الحجرات اية (10)، فلا حدود جغرافية ولا قوميات ولا اشكال وألوان ولغات، وضرورة تطبيق القوانين الاسلامية واعطاء الحريات الفردية والاجتماعية والمساواة والعدالة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)العنكبوت اية (69)، واستخدام مبدأ الشورى في كل صغيرة وكبيرة وتحكيم العقل والأخوة بين افراد المجتمع…… داعيا إلى ضرورة الوعي السياسي وفهم المرحلة التي تعيشها الامة وإدراك حجم المخاطر التي تحيط بها، وكانت دعواه دائما هو ضم دراسة السياسة الى جنب سائر الدراسات الأخرى واضعا في الاعتبار ان يعرف الانسان ارتباط الامور بعضها ببعض ومعرفة (المسافات والخصوصيات والمزايا والأقوام والاتجاهات والتيارات.
وكان (رضوان الله عليه) يركّز على الاقتصاد في بناء الدولة والإنسان، فمجتمع يملك زمام قوته ومعيشته قادر على مواجهة المخاطر والاهوال، فنلاحظ إن الدول الكبرى احتلت العالم ببضائعها ومنتوجاتها مما ادى الى سيطرتها وتسييرها لهذه البلدان والدول وتصنع فيها ماتشتهي وترغب، فوضع الهدف بالتحرك تجاه بناء اقتصاد متكامل، لان من يريد السير بالأمة الى الامام لابد من معرفة كل الامور والجوانب والاطراف والخصوصيات والحوادث والارتباطات والاسباب والمسببات، لوضوح إن ممارسة التغيير لاتصح بالنسبة إلى من لايعرف هذه الامور، وان من لايعرف كيف ابتدأت الدولة الاسلامية؟ وكيف تم القضاء عليها في هذا القرن؟ لايتمكن من التأسيس لان المؤسس بحاجة الى معرفة التاريخ ومجريات الامور وخصوصيتها وتفاعلاتها.
ولايغفل الامام الشيرازي عن ادق التفاصيل في توضيح آليات فهم السياسة ومعرفة قدر المسافة، حيث كان يناشد دائما الآخر من المسلمين واصحاب المذاهب بالتسامح والحب واللاعنف ويتأسى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيف كان عفو النبي وسماحته تجاه اهل مكة وسادتها وقادتها، بل اشركهم بعد مدة قليلة بغزواته وجعلهم قادة واجزل العطاء لهم لكي تأتلف قلوبهم، ولم يسترجع أي شيء اغتصب منه ومن المسلمين من اموالهم ومساكنهم بل نصب (صلى الله عليه وآله وسلم) خيمة في الصحراء خارج مكة يوم الفتح، ولم يقتل انسانا واحدا ولا اراق منهم قطرة دم واحدة ولا ازالهم عن مناصبهم ومراتبهم.
هكذا كان يريد المجدد الشيرازي ان تكون روح الأمة في الدولة الجديدة، لان الدولة تقوم بالمن والعفو، فتركيزه انصبّ على الوعي السياسي وفهم وادراك المرحلة فكل شيء يهدد وحدة المسلمين ويفرقهم الى قوميات هو مرفوض وليس من الاسلام ويجب ان تذوب كل التقسيمات في بحر الاسلام، وكل من يصل الى الحكم بلا استفتاء حر من الشعب وبلا شورى منهم ولا انتخاب فهو باطل وليس من الاسلام.