18 ديسمبر، 2024 9:05 م

الأسبوعان الماضيان مفيدان لقراءة تأثير وسائل الإعلام والتقنية الحديثة التي ضربت أطنابها بيننا دون أي مقدمات، سوى رغبة مكبوتة باللحاق بركب عالم حرمنا من مجاراته حصار خانق فرضتهُ أمريكا وحلفاؤها على العراق، أكثر من ثلاثة عشر عاماً في سابقة لم تمر في تاريخ العالم الحديث على الأقل، أقول مفيدين لقراءة ظاهرة التحشيد التقني التي تجري في البلاد ومناقشة مخاطرها على الواقع وبشكل مختصر.

في التحليل النفسي والسايلكوجي يمكن أن نقرأ تأثير هذه الوسائل بشكل واضح الآن في صناعة الرأي العام وتوجيهه وتجيشه بأي اتجاه، بعد أن كانت هذه المهمة مناطة بالبروغندا الرسمية التي تحركها الديكتاتورية، فيما مضى لخدمةِ أهدافها، وحين انهارت بُنى الاستبداد، صارت الجماهير تحن بشكل لا شعوري إلى عملية توجيه وأدلجة وتجييش افتقدتها حين أوقف احتكار الإعلام ووسائل الاتصال من قبل السلطة، ولذا فأن وسائل الاتصال التي دخلت البلاد أخذت على عاتقها هذه المهمة، فالواقع لا يقبل الفراغ مطلقاً، واصحبت عملية توجيه الجماهير غير مقتصرة على النظام السياسي الحاكم ليوظفها لخدمة أهدافه، بل صار بإمكان أي متسلح لو بشيء قليل من المعرفة التقنية، توجيه الجماهير وحشدها ضمن فكرة مهما بدت متطرفة أو غير قابلة للمناقشة، فمثلما يقول المفكر غوستاف لوبون “لا يشترط في قيادة الجموع أن يكون القائد ذكيا أو عاقلا أو داهية أو مفكرا أو فصيحا بل يكفيه من ذلك كله شيء من العلم بأذواق أتباعه وسبل الوصول إلى قلوبهم لا يزيد عن علم التاجر بأذواق زبائنه ورغباتهم
وهذا الحال الذي انتهينا إليه حيث أصحبت عملية صناعة الرأي العام متروكة في البلاد متروكة لأشباه متعلمين وأنصاف مثقفين، وأصحاب أجندات مشبوهة، كيما يقوموا بتهييج الجماهير، وحشدها خلف اصطفافات وأحياء نزعات بدائية عدوانية لديهم، وما تحويل تصريح لسياسي مغمور في فضائية مغرضة إلى قضية هزت الرأي العام، واستدعت اهتزاز الكثير من المسوؤلين وقبلهم الجماهير، بل ووصلت الأمور إلى أن يتدخل المثقفون ويسيلوا حبراً لم ينفق مثله على كتابة أكبر معاجم التطرف في العالم، للدفاع عن جمهور أتهمهُ السياسي الطائش بأن أصله هندي!، وأي تهمة تلك التي تمس الكرامة وتجرح الشعور العام.
وما إن بدأت هذه القضية “الهندية”! تفقد بريقها حتى التقط موجهو الجماهير كلمة منحطة من فنان مغترب يعيش في أطراف نائية من هذا العالم ليحولوها إلى قضية رأي عام اهتزت لها البلاد، ولم تنته عند قيام اتحاد أدباء – اليسار المُنبطح – بطرد هذا المخمور، بل صارت الجماعات الأصولية تصول وتجول بتهديدها للمبدعين والأدباء وأصحاب الرأي من مغبة المساس بما تعتقدهُ، وفي هذا خير مثال على مدى خطورة الوضع الذي وصلنا إليه في تحكيم ذوق الجماهير في محاسبة الدولة وقوانينها واعرافها، والأمر من ذلك أن يترك الفكر لذوق الجمهور