يعتمد القرآن الكريم على جزالة الألفاظ التي تظهر المعاني بأسلوب دقيق يرقى بها إلى ما يتطابق مع القيم الإنسانية التي تبنى على الصدق والمعاملة الحسنة، وأنت خبير من أن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه المواضيع في كثير من متفرقاته، ولا يخفى على المتأمل من أن تلك الإرشادات قد تفوق ما ذُكر من أمر الصلاة أو المسائل العبادية الأخرى وإن كانت الصغرى لا تستقيم إلا بإرجاعها إلى الكبرى، وهذا السلوك بحد ذاته يجعل الإنسان يسير نحو درجات التكامل. هذا من جهة ومن جهة أخرى نلاحظ أن القرآن الكريم يزيل جميع العقبات التي تعترض طريق الإنسانية مما يجعل المساواة بين الناس تأخذ أقصى حالاتها، كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات 13. وهذه النسب المتفاوتة بين الوعظ والإرشاد وبين الارتقاء والكمال، وكذا المفاهيم الأخرى التي أشار إليها الحق سبحانه، لا يمكن الإحاطة بها من قبل جميع الناس بنفس الدرجة أو التصور وذلك لاختلاف مراتب الفهم بين إنسان وآخر، إضافة إلى الإهتمام العلمي الذي يجري في سائر المناهج بواسطة الطرق المتباينة.
من هنا نعلم أن موارد العلم لا يمكن أن تؤخذ إلا من أصحاب المعارف والملكات الذين بذلوا الجهد في الوصول إلى كشف الحقائق وتنقيحها لأجل أن يُفرّق الآخرون بين الغث والسمين أو الصحيح والسقيم وذلك من خلال ما يصل إليهم عن طريق العلماء الذين كان لهم الدور الأمثل في تبيان الحقائق الغامضة لئلا يكون للناس حجة في عدم فهم النهج المستقيم الذي يلزمهم قبوله، والأخذ به، دون اتباع الأساطير التي تظهر بين حين وآخر، حتى أصبحت أقرب إلى السنن التي يجري خلفها أصحاب الباطل، دون دراية أو تمحيص، مما يجعل الكثير من الناس لا يفرق بين تلك السنن، وبين المنهج القويم الذي يمكن أن تُفتح لهم عن طريقه جميع أبواب المعارف القرآنية، وأنى لهم ذلك بعد أن انتشرت الفتن، حتى كادت أن تكون من أكثر الطرق إتفاقاً مع آراء ومعتقدات الجم الغفير من الناس الذين لم ينالهم نصيب من العلم الذي يجب أن تبنى عليه اتجاهاتهم إذا ما وجدوا الحلول المناسبة التي تُمكّن لهم تحقيق التكافؤ في درجات الفهم فيما يتلى عليهم من آيات الله تعالى، أو ما يلخص في مديات ما تؤول إليه أفكارهم، من خلال الطرح المقدم إليهم عن طريق مناهج التفسير وما يتشعب منها.
فإن قيل: إذا سلمنا باختلاف الفهم بين الناس فكيف يمكن الوصول إلى معرفة الحقائق القرآنية؟ أقول: كما بينا سلفاً يمكن للمكلف أن يرجع إلى الأعلم من خلال الممارسات العلمية، وبهذا يظهر الامتياز بناءً على درجات الأخذ، مع القدرة على العمل، وهذا ما يأمرنا به القرآن الكريم في كثير من متفرقاته، وقد أشار تعالى إلى تلك الدرجات وبيّن أنه قد يسرها كما في قوله: (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً) مريم 97. وقريب منه الدخان 58. وكذا قوله: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر 17. وبناءً على هذا اليسر في المعنى نرى أن القرآن الكريم قد ذم الذين صعب عليهم الأخذ به، كما في قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) القتال 24. وقريب منه النساء 82. وبهذا يظهر
الفرق في فهم القرآن الكريم، أما خلاف ذلك فيُرد إلى الأخذ بحرفية الألفاظ، دون الخوض في شروط المباحث العامة وما يتفرق من خواصها، وكذا الاطلاقات التي لم يجد البعض ما يقيدها، إضافة إلى الناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك من القيود التي يترتب عليها الفهم العام المتداول في معرفة القرآن الكريم، ومن هنا وجب دراسة تلك التفاصيل، وكذا التفريق بين المعاني الإجمالية، أو ما يتصل بها، إضافة إلى دراسة البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم، والتعرف على ما تحفل به من ملكات بلاغية، وصولاً إلى الحكم والأمثال التي كانت متداولة في زمن التنزيل، أما في حالة الابتعاد عن هذه المفاهيم وعدم دراستها، فإن القانون الآخر سوف يأخذ الأجواء على الأصل الذي أشرنا إليه، وهذا ما أدى إلى وصول الناس إلى ما هم عليه من عدم الفهم الحقيقي لمعارف القرآن الكريم.
فإن قيل: ما هو السبب المباشر الذي يجعل القانون الثاني أكثر ظهوراً؟ أقول: هناك عدة أسباب تجعل عدم الوصول إلى الفهم الحقيقي يأخذ هذا الظهور أهمها:
أولاً: فرية عدم تمكن عامة الناس من الوصول إلى تفسير القرآن الكريم.. أي أن القرآن الكريم لا يمكن أن يُفهم إلا من قبل العلماء أو أصحاب الشأن، وهذا من الجهل الذي ابتلي به جمع كبير من الناس، علماً أن انتشار هذه الفرية كان بسبب العلماء أنفسهم إذا ما استثنينا بعضهم.
ثانياً: الاهتمام بحفظ القرآن الكريم دون التعرف على مفاهيمه.. وهذا من أهم الأسباب التي تحول بين الناس وبين الفهم الحقيقي لكتاب الله تعالى.
ثالثاً: الابتعاد عن القرآن الكريم والانصراف عند تلاوته.. وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) التوبة 127. وكذا قوله: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) فصلت 26. وفي الإيجاب قال تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) الأعراف 204.
رابعاً: اتباع الأفكار الهدامة والأساطير السائدة.. وهذا ما حصل مع اليهود الذين كانوا في زمن النبي “صلى الله عليه وسلم” حيث كان منهجهم مليئاً بالأساطير التي كانت تروى على عهد الأنبياء السابقين، ومن مصاديق ذلك اتباع ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، ونبذ كتاب الله وراء ظهورهم. فإن قيل: ما الدليل على صرف اللفظ في هذه القصة إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي؟ أقول: يظهر الدليل في سياق قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) البقرة 101. فإن قيل: لا يعتبر السياق حجة عند بعض الفرق كالإمامية مثلاً فكيف الجمع؟ أقول: إذا افترقت معاني السياق عن بعضها فههنا تسقط الحجة، كما هو الحال في دخول الجملة الاعتراضية، أما إذا كان السياق يشد أوله آخره أو العكس، فلا مناص من اعتماده، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق
ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون) البقرة 102. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء أعرض لها:
الرأي الأول: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: قوله (واتبعوا) عطف على جملة الشرط وجوابه في قوله: (ولما جاءهم رسول من عند الله) البقرة 101. بذكر خصلة لهم عجيبة وهي أخذهم بالأباطيل بعد ذكر خصلة اخرى وهي نبذهم للكتاب الحق فذلك هو مناسبة عطف الخبر على الذي قبله، فإن كان المراد بكتاب الله في قوله: (كتاب الله وراء ظهورهم) البقرة 101. القرآن فالمعنى أنهم لما جاءهم رسول الله مصدقاً لما معهم نبذوا كتابه بعلة أنهم متمسكون بالتوراة فلا يتبعون ما خالف أحكامها وقد اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهو مخالف للتوراة لأنها تنهى عن السحر والشرك، فكما قيل لهم فيما مضى (أفتؤمنون ببعض الكتاب) البقرة 85. يقال لهم أفتؤمنون بالكتاب تارة وتكفرون به تارة أخرى. وإن كان المراد بكتاب الله التوراة فالمعنى لما جاءهم رسول الله نبذوا ما في التوراة من دلائل صدق هذا الرسول وهم مع ذلك قد نبذوها من قبل حيث (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) مع أن ذلك مخالف لأحكام التوراة. انتهى.. وفي البحث بقية من أرادها فليراجع تفسير التحرير والتنوير.
الرأي الثاني: يقول سيد قطب في الظلال: وفي الآية ما فيها من سخرية خفية يحملها ذلك النص على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلو كانوا هم المشركين الأميين لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوماً، ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب، هم الذين عرفوا الرسالات والرسل، هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور.. وماذا صنعوا؟ إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم والمقصود طبعاً أنهم جحدوه وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم، ولكن التعبير المصور ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحس ويمثل عملهم بحركة مادية متخيلة، تصور هذا التصرف تصويراً بشعاً زرياً، ينضح بالكنود والجحود، ويتسم بالغلظة والحماقة ويفيض بسوء الأدب والقحة ويدع الخيال يتملى هذه الحركة العنيفة حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور.
ويضيف سيد قطب: ثم ماذا؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه؟ كلا.. لا شيء من هذا كله. إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة.. (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون).
لقد تركوا ما أنزل الله مصدقاً لما معهم، وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان، إذ يقولون: إنه كان ساحراً وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه، والقرآن ينفي عن سليمان (عليه السلام) أنه كان ساحراً، فيقول: (وما كفر سليمان) فكأنه يعد السحر واستخدامه كفراً ينفيه عن سليمان (عليه السلام) ويثبته
للشياطين: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين: هاروت وماروت الذين كان مقرهما ببابل: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت).
انتهى.. ومن أراد ما تبقى من البحث فليراجع تفسير في ظلال القرآن.