لم يشغل نظام الحكم الحالي باله بالإقتصاد، كمنهج وسياسة، مكتفياً بما يدره النفط من أموال، بل حتى هذه الأموال المتحصلة من الصادرات النفطية لاتشكل جهداً محسوباً عليه، كونه قد رهن ميزانيته على إضطرابات السوق النفطية العالمية، التي يحقق من خلالها الموازنة الإنفجارية كلما سجل سعر البرميل إرتفاعاً، لكنه كما يبدو لم يستشعر خطر الإهتزازات أو الحروب التي من شأنها أن تحد من حجم الصادرات النفطية، كما هو الحال اليوم، أو تعيد رسم السياسات السعرية للنفط، بما يؤثر في ميزان المدفوعات سلباً، ويضع الموازنة العامة المتورمة في جانبها التشغيلي، في حالة عجز.
من حق الفقير، ومن يقع تحت هذا العنوان من محدودي الدخل، أن يقنع بـ ” المقسوم”، ويكتفي في حدود تطلعه وطموحه ” المهم اللقمة طالعة”، وإن كانت مستلزمات الحياة أعقد من ذلك، لكن عندما تتضاءل الفرص يصبح الخيار المتاح أمام هذه الشريحة العريضة أن تعلل لمن تعول أن القناعة كنز لايفنى، لكن لايمكن أن تتبنى الدولة بما تعنيه من مؤسسات مثل هذا الطرح، بحيث تعطل كل مواردها الأخرى لصالح النفط، مادام أنه قادر على تحقيق إكتفاء مادي، يصل الى حد الإنفجار ، لأننا بالنتيجة سنكون عرضة الى الإنهيار أمام أية أزمة إقتصادية، مدارها النفط.
لكن واقع الحال يؤكد هذه الحقيقة مع الأسف، وإن كانت بمعاني ومدلولات أخرى، فنحن منذ أكثر من عشر سنوات لم نسمع عن برنامج إقتصادي طموح للتقليل من الإعتماد على واردات النفط، بل العكس كان التركيز منصباً على زيادة الصادرات النفطية، من دون أن يقابلها أي فعل بإتجاه إستثمار القطاعات الأخرى كالزراعة والصناعة والسیاحة والخدمات الانتاجیة.
ليس هذا، فحسب، بل نحن حتى الآن ، على مستوى نظام حكم طبعا، ليس لدينا أية مؤشرات لطبيعة الأزمة التي تهدد إقتصادنا اليوم، وما جرى التنبيه عليه، كان محصوراً بمتخصصين عراقيين في الشأن السياسي والإقتصادي، أو تقارير دولية، ولعل هناك من يتحدث ساعات عن الإرهاب ، والحرب الدائرة عليه، لكنه لايشير ولو لمحة واحدة الى ما يمكن أن يصيب الإقتصاد الوطني من إنهيار.
لاشك أن الرؤية في حدود المنظور، قصور على المستوى العام، لكن على مستوى الدولة كارثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لذا لابد أن نضع في الحسبان دائماً، خطورة أن نربط إقتصادنا بالنفط وحده، ونكون عرضة للأزمات الإقتصادية التي تنتج عن تقلب اسعار النفط العالمي وقلة الطلب عليه.
الملفت الذي لم نلتفت اليه، مع الاسف، ان في منظومتنا الإقليمية، دولاً تشكلت بفعل النفط، لكنها إستطاعت أن تستثمر هذا المورد الأحادي في بلادها، لخلق موارد جديدة، تدخل الموازنة، وتنافس النفط أحياناً، فيما نتراجع نحن عن موارد كثيرة كانت من ركائز إقتصادنا الوطني، لكنها اصبحت مثل كثير من الأشياء المهمة في وطننا هامشية، لذا لا غرابة أن يشكل النفط اليوم 93% من الموازنة، وهذا يعني أننا إزاء خطر كبير يتهددنا متى ما إنخفضت اسعار النفط، أو قل الطلب عليه، أو أصبح خارج السيطرة، وبالتأكيد لانقصد من كلامنا هذا أن يتراجع النفط في الموازنة، بقدر ما نطالب بوجود موارد أخرى تعاونه، وتسد الشواغر عنه إذا تطلب الأمر.
لم نأت بهذا الكلام من فراغ، ولاعن إفتراضات، بل مؤشرات باتت تهدد العراق بأزمة إقتصادية أكبر من كل التوقعات، وإذا كان صندوق النقد الدولي يتوقع حالة إنكماش في الإقتصاد العراقي ، بنسبة 2,7% ، فإن تقديرات الخبراء الإقتصاديين ترى نتائج أسوأ من ذلك، في ظل إنخفاض إيرادات النفط الى النصف تقريباً، ناهيك عن تزايد حجم الإنفاق التشغيلي، ولاسيما في المؤسسة العسكرية التي تضاعف أعداد منتسبيها، وما يتطلب ذلك من رواتب ومستلزمات الحرب الجارية اليوم في العراق.
وفيما يستبعد البنك المركزي إستخدام إحتياطييه ، الا أن العجز المتوقع سوف لايدع للحكومة من خيار الا وتلجأ اليه، بما في ذلك الإقتراض الخارجي.
وعليه ، لابد من إجراءات عاجلة لوقف الإنهيار، من خلال إعادة رسم الموازنة في جانب الإنفاق التشغيلي، تقليص أو ترشيد أو نحو ذلك، مقابل تدعيم الإنفاق الإستثماري وعدم إخضاعه لحالة التقشف، وهذا يتطلب سياسة إقتصادية إستثنائية، تحقق وفرة مالية لسد النقص في الوارد النفطي، وإيجاد قدر من التوازن في ميزان المدفوعات.
لعله، درس نتعلم منه أهمية تعدد الموارد في تحقيق موازنتنا الإنفجارية، وبلادنا تزخر بتنوع مصادرها.