إن الغاية الأساسية من وجود الدولة، هي ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم دون مساس الأفراد بسلطتها أو بمشروعيتها(في الدول الديمفراطية)، ولتحقيق هذه الغاية، لا بد أن يوجد جهاز إداري ومؤسسات قانونية وتنظيم ، وتمارس سلطة لها الياتها ، فمجال السياسة هو مجال صراع مصالح متعارضة، وتبعا لهذا الصراع لا بد أن يكون رجل السياسة قويا ذكيا، ليستطيع الانتصار على خصومه أو أعدائه، فهو يستخدم كل الوسائل المشروعة من اجل بسط هيبة الدولة . ودولة القانون كمفهوم وكشعار، نشأت وتأصلت بفعل تطورات عديدة ,مثلا العصور التي عاشها الغرب المسيحي من القرون الوسطى إلى عصر الانوار، عصر الحداثة الذي يعيشه بكل أبعاده: ثورة علمية من غاليلو إلى بيل غيت، وثورة اقتصادية ليبرالية أنتجت تقدماً وحضارة مادية، وثورة دينية من الكنيسة إلى العلمانية، وثورة في اساس الحكم من الإلهي المطلق إلى الديمقراطي، ولا ننسى أيضاً ثورة بل حروب القوميات… فنوعية الحكم الذي نتحدث عنه في دولة القانون، ينبغي أن لا يفهم فقط على أنه يتجلى في خضوع الدولة للشرعية القانونية من أجل الوصول إلى العدالة والإنصاف، وإنما يجب أن يفهم بجميع تجليات محيطه المتطور. ولكي تمارس الدولة وظائفها واختصاصاتها، باعتبارها تجمعا سياسيا منظما وعقلانيا، فإنها تلجأ بالإضافة إلى الوسائل القانونية إلى العنف المادي، فهي وحدها تمتلك هذا الحق-حسب ماكس فيبر- وتحتكره، إنه عنف معقلن ومشروع لحماية الحق العام. إلا أن احتكار السلطة السياسية واستخدام العنف سواء من طرف فرد واحد أو هيئة واحدة سيؤدي إلى قيام نظام استبدادي. وقد وجهت الماركسية، نقدا لجهاز الدولة في النظام الرأسمالي الليبرالي، باعتبارها أداة توظفها الطبقة البورجوازية لتبرير سيادتها ومشروعية استغلالها للطبقات المضطهدة. حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات ، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا تأسست هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وناكرة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
إن نوعية الحكم التي تنجم عن الوسائل والأهداف المحددة التي لاتتقاطع مع الحقوق الاساسية للافراد، هو الحكم الذي تكون فيه الطاعة والخضوع من الحاكم والمحكوم إلى القانون والمؤسسات. ولكن لا يمكن تحديد نوعية الحكم المؤسساتي الناجم عن دولة القانون إلا من خلال الربط بين دولة القانون والمناخ الذي نشأت فيه: فكرياً وفلسفياً، وسياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً… وحتى دينياً.
إن الإيمان بقيمة وأهمية الفرد يعتبر إحدى الإيديولوجيات الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية. هذا الإيمان في الواقع ناجم عن موروث تاريخي أفرزته الحضارات التي تعاقبت على هذه الدول. فالعصور القديمة ركزت وأكدت إنسانياً على الشخصية الإنسانية الحرة المسؤولة، واقتصادياً على الملكية الفردية، واجتماعياً على العدالة. وقد جاءت الحضارة اليونانية على تنظيم ذلك في إطار الدولة أو السلطة السياسية. ومن ثم أدخلت المسيحية على هذه الأفكار دقة ولهجة جديدة: ففكرة الإنسان الحر المسؤول أعطيت مزيداً من القيمة من خلال التأكيد على النفس والخلاص الفرديين، وأكملت فكرة العدالة بفكرة الإحسان. ونمت الفكرة الفردية كأحد جذور الحرية بقوة في ظل القرون الوسطى. وبدأ هذا الموروث التاريخي “يتمأسس” منذ عصر النهضة حيث نشأت الفردية الحديثة التي تشكل تراثاً إنسانياً للمجتمعات الغربية.
إن خضوع الجميع حكاماً ومحكومين لقانون أسمى يقيدهم ويلزمهم في تصرفاتهم الإيجابية والسلبية، ويمنع الكافة من الخروج على حدود ما لهم من حقوق، أو سلطات، ويرسم الحدود الفاصلة بين سلطة الحاكم وحرية المحكومِ,ونظام الدولة القانونية يقوم على مجموعة من العناصر والمقومات التي تكفل الاحترام المتبادل بين الحكام والمحكومين، والتي تحافظ على النظام في المجتمع، كما تصون الحقوق والحريات التي يقررها الدستور والقانون، ونظام الدولة القانونية هو وحده الذي يقوم على تقرير الحقوق والحريات للأفراد، ويبين ضمانة الممارسة الفعلية لهذه الحقوق والحريات، كما أنَّ نظام الدولة القانونية يحظر على السلطات الحاكمة فرض القيود على الحرية إلا بالقانون أو على الأقل بناءً على قانون . وإذا كان – وفقاً لمفهوم الدولة القانونية – لا يمكن للدولة أن تتصرف إلا بمقتضى القانون، فإن استخدام القوة المادية يجب أن يوضع على أساس قاعدة قانونية تجيزها، وكذلك فإن ممارسة السلطة من قبل أجهزة الدولة لا يمكن أن يتم إلا في إطار القواعد القانونية.
وبالتالي، فإن القانون وفقاً لما تقدم لم يعد أداةً لنشاط الدولة، ولكن موجهاً وهادياً لتقييد سلطتها، إن مؤيد خروج الدولة على القواعد القانونية يكمن في خضوعها إلى جزاءٍ يرتبه قاضٍ مستقل. ويرى الفقه أن تدرج القواعد القانونية هو أحد مقومات الدولة القانونية، حيث لا يمكن تصور النظام القانوني للدولة القانونية بدون هذا التدرج الذي يظهر في سمو بعض القواعد القانونية على بعض، وتبعية بعضها للبعض الآخر، وهو ما يستلزم بالضرورة خضوع القاعدة الأدنى للقاعدة الأسمى شكلاً وموضوعاً، فأما خضوعها شكلاً فبصدورها من السلطة التي حددتها القاعدة الأسمى، وباتباع الإجراءات التي بينتها، أما خضوعها موضوعاً، فذلك بأن تكون متفقة في مضمونها مع مضمون القاعدة الأعلى، وبالتالي فلا يصح أن تتعارض قاعدة قانونية دنيا مع أخرى تعلوها حتى لا يحدث خلل في انسجام البناء القانوني للدولة.
وتعدّ الرقابة القضائية من الضمانات الأساسية لحماية الحريات العامة، ولصيانتها ضد ما يمكن أن يقع عليها من اعتداءات، وذلك عن طريق قيام سلطة قضائية مستقلة بممارسة رقابة قضائية على أنشطة السلطات الحاكمة كافة، ولا يمكن أن تكون الرقابة القضائية ناجعة، إلا إذا قامت على مجموعة من المبادئ والأسس من بينها كفالة حق التقاضي وعدّه من الحقوق الدستورية الأساسية التي لا يجوز المساس بها، وأن تمتد رقابة الفضاء لكل أعمال السلطات العامة، وأن يكون للقضاء استقلاله وحصانته وحيويته.
وتقوم السلطة القضائية بدورٍ مهم في نطاق رقابتها على أعمال السلطة التنفيذية، فهي التي تتصدى لما تقوم به من أعمال إدارية مخالفة للقانون، فتعلن بطلانها وتلغيها، وتعوض الأفراد عن الأضرار التي تصيبهم نتيجة التصرفات أو الأعمال الخاطئة والصادرة عن الجهات الإدارية. كما أن السلطة القضائية هي التي تحمي الدستور، وما يقرره ومن ضمانات للحرية، فتلغي أو تمتنع عن تنفيذ القوانين والأعمال الإدارية اللائحية والفردية، والمخالفة للمبادئ الدستورية العامة، أو للنصوص الدستورية الصريحة، وذلك فيما يعرف بالرقابة على دستورية القوانين.
إن الدول التي أنشأت القانون الدولي ما قامت بدايةً إلا على أساس التمييز ، وقد تجسد ذلك في السياسات الفاشية والنازية التي كبدت الإنسانية خسائر هائلة، لأنها كانت قائمة أصلاً على نقيض فكرة المساواة. وإذا كان الإنسان ميالاً بطبعه إلى التميّز عن أقرانه، فإن هذا يكون مقبولاً فيما يمكن أن يقدمه من عطاء، ومرفوضاً فيما يسعى إلى الاستئثار بالثروات على حساب الاخرين ، وبمقدار حاجة المجتمع الدولي إلى السلم والأمن الدوليين، فإنه بحاجة إلى تعزيز المساواة بين بني البشر، لأن انعدام المساواة يؤدي إلى ترسيخ التفرقة داخل الدولة فيزعزع أمنها، وبالتالي قد يهدد السلم والأمن الدوليين. هذه الحقيقة أدركتها الدول بعد الحروب الكبرى. لذلك كانت المواثيق الدولية تتطرق إلى ضرورة المحافظة على السلم والأمن الدوليين، كما تتطرق إلى ضرورة العمل على تحقيق المساواة.
والواقع، إن تجارب الكثير من الدول النامية أثبتت فشلاً ذريعاً في احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، التي تقتصر على كونها حقوقاً فردية ولا تنطوي على وجود حق جماعي! لعل هذا التداخل للحق في التنمية، بين الفردية والجماعية، وصعوبة تمييز مضمون كل منهما عن الآخر، يعطي مسوغاً للدول التي لا تكترث لاحترام حقوق الإنسان أن لا تعير للحق الفردي في التنمية أي اهتمام، بحجة سعيها إلى إنجاز التنمية الشاملة كحق جماعي. وهذا ما يشكك – مرة أخرى – في صحة إضفاء القانونية على الحق في التنمية بحسبانه من حقوق الإنسان. من الطبيعي أن تكون الدولة (بمعناها الضيق: أي الحكومة) هي الشخص المعني بحماية حقوق الإنسان بالدرجة الأولى، إذا ما فهمنا الحماية بمعنى الإنجاز. وبعبارة أخرى، فإن الدولة التي تكون طرفاً في اتفاقيات دولية خاصة بحقوق الإنسان، هي المكلفة بإنجاز التزاماتها الدولية في هذا المضمار. ومن ثم، فإنها الجهة المنوط بها حماية حقوق الإنسان. ولكن، إذا كانت الدولة هي التي تتنكر لالتزاماتها الدولية، وتقوم بانتهاك حقوق الإنسان، فهل للدول الأخرى دور في فرض احترام هذه الحقوق على الدولة منتهكة الحقوق تجاه أبناء شعبها؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن لدولة ما أن تتدخل لحماية حقوق الإنسان في دولة أخرى؟ تعرف هذه المشكلة في القانون الدولي بـ”التدخل الدولي الإنساني” أو التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان .
وبالرغم من حداثة القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن التدخل الدولي لحماية هذه الحقوق قديم قدم القانون الدولي ذاته. فقد كان جروشيوس يجيز هذا النوع من التدخل، حيث أقر لأباطرة الرومان بالحق في حمل السلاح ضد كل حاكم يمارس على رعاياه فظائع لا يمكن أن يتقبلها أي إنسان عادل، وضد الذين يضطهدون المسيحيين بسبب دينهم. وتنفيذاً لهذا الحق قامت بعض الدول الأوروبية كفرنسا وإنجلترا وروسيا بالعديد من التدخلات العسكرية ضد البلدان التي كان ينسب إليها اضطهاد وظلم الأقليات المسيحية المقيمة بها. وكثيراً ما كانت هذه البلدان تجبر على إبرام اتفاقيات تتعهد من خلالها باحترام حقوق وحريات هذه الأقليات . وتتنوع أساليب التدخل لحماية حقوق الإنسان من جانب دولة ضد أخرى، حسب تقدير الدولة المتدخلة لخطورة انتهاكات حقوق الإنسان في الدولة المتدخل ضدها. فقد تبدأ بتدابير سياسية، كالإدلاء بتصريحات عامة تنتقد انتهاك حقوق الإنسان في دولة أخرى؛ أو تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي احتجاجاً على انتهاكات حقوق الإنسان؛ أو إرجاء الزيارات الرسمية أو إلغائها ؛ أو إدراج مسألة انتهاك حقوق الإنسان في إحدى الدول على جدول محادثات مسؤوليها مع نظرائهم في الدولة المعنية . وقد تتبع التدابير السياسية تدابير اقتصادية كوقف المعونات الاقتصادية؛ أو حظر العلاقات التجارية مع الدولة المتهمة بالانتهاك، أو قطع العلاقات الاقتصادية معها عموماً . ولكن التدابير الأكثر إثارةً للجدل بالنسبة لمشروعيتها، هي التدابير التي تنطوي على تدخل عسكري بحجة حماية حقوق الإنسان . والواقع، إن التدخل من جانب دولة لحماية حقوق الإنسان في دولة أخرى، لم يكن ليثير المشكلات من الناحية القانونية حتى وقت قريب، وبالتحديد حتى قيام الأمم المتحدة *، عندما بدأت الحركة الدولية لتقنين حقوق الإنسان، وكانت أغلبية المجتمع الدولي هي من الدول المتقدمة ، أي أن الدول النامية التي توجه إلى الكثير منها اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، لم تكن قد ظهرت على الساحة الدولية بشكل كبير. وأمام ضعف النظام القانوني الدولي عموماً، والذي كرس عدم المساواة بين الأقوياء والضعفاء ، وأمام ضعف الحماية الدولية لحقوق الإنسان، أخذت الدول القوية – ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية – منذ أواسط السبعينيات ، تتذرع بحماية حقوق الإنسان للتدخل في شؤون الدول الأخرى. وقد تزايد اللجوء إلى هذا الأسلوب في الثمانينيات، حيث وجدت الولايات المتحدة دولاً متقدمة – مثل كندا – تشايعها التدخل بحجة حماية حقوق الإنسان وأما بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الانظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، فقد تفجرت الصراعات العرقية في تلك المنطقة، وحدثت فيها انتهاكات جسيمة وصلت حد الإبادة لمسلمي البوسنة والهرسك، ولكن الدول الكبرى لم تتدخل لحماية حقوق الإنسان هناك، رغم استمرار أعمال التطهير العرقي لمدة أربع سنوات؛ بل إنها أفشلت حتى الجهود الدبلوماسية لاستصدار قرار من الأمم المتحدة بهذا الخصوص .
ومع بداية القرن الحادي والعشرين أصبحت حجة حماية حقوق الإنسان حاضرةً في كل تدخلات الولايات المتحدة، تدعمها حجج أخرى كمحاربة الإرهاب، وفرض الديمقراطية. والحقيقة أن التدخل من جانب دولة ضد أخرى – ولاسيما بالأسلوب العسكري – دائماً ما يواجه من جانب الدول التي يتم التدخل في شؤونها الداخلية. أن تجارب التدخل بحجة حماية حقوق الإنسان، أثبتت مقدرة الدول الكبرى على تحييد المنظمات الدولية، التي تجد نفسها عاجزة عن منع التدخل غير المشروع، حتى إذا انطوى هذا التدخل على عدوان سافر . والمشكلة في تدخل دولة ضد أخرى لحماية حقوق الإنسان، أنها مسألة سياسية وليست قانونية. وهذا يعني أن الدولة لا تتدخل لفرض احترام حقوق الإنسان تطبيقاً للقانون، وإنما لحماية مصالحها.
—————————
* السبب في ذلك أن القانون الدولي لم يكن يحرم الحرب بشكل كامل قبل ذلك الوقت. بل على العكس، كانت الحرب حقاً مشروعاً للدولة فيما مضى، ويمكنها أن تعلنها في أي وقت ضد الدولة التي تشاء. وبسبب المعاناة من ويلاتها، بدأت مشروعية الحرب تخف تدريجياً، حيث أصبح من اللازم أن تكون الحرب عادلة لكي تتسم بالمشروعية، وأصبحت الحرب العدوانية غير مشروعة أبداً. ولكن المجتمع الدولي لم يتوصل إلى تحريمها حتى قيام الأمم المتحدة، حيث حظر الميثاق في المادة 2/4 استخدام القوة أو حتى التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية بين أعضاء الأمم المتحدة، إلا وفقاً للميثاق (أي في إطار الأمن الجماعي الدولي، والدفاع عن النفس). راجع في مشروعية الحرب، د. حازم محمد عتلم، قانون النزاعات المسلحة الدولية، المدخل، النطاق الزماني، الطبعة الأولى، 1994 (لا ذكر لدار النشر) ص 44-136.