محسن الخفاجي ، اسم يتكرر كثيرا وكاتب عراقي لن يتكرر.حياته برمتها نسخة غير منقحة من ثقافة الستينات الصاخبة التي زلزلت شخصية العربي المنتكس الخارج من حرب خذلته وآمال خذلها ، لتجرف لحياته متاقضات تعمل داخله في ان واحد ، الهزيمة والفخر ، الوجود والعدم ، المجون والقداسة ، الفوضى والنمطية ، الغموض والاباحية. القدامة والحداثة . اليأس والمكابرة وقبل ذلك كله التيه في مسافة بين ذاته وتحولات العالم ، في الحرب واستحقاقاتها ، والسلام ومؤهلات المساهمة في عالمه المتشعب.
ليس عابرا ان تكون شخصية كاتب ميدانا لافرازات مرحلة مهمة في التاريخ العربي كهذه. هنا امتياز محسن الروائي والفنان الذي عاش حياته موزعا بين شخصيات خلقها و شخصيات من روايات وقصص واحداث تلبسته ، لذلك ترى طلبته واصدقاءه يحدقون بكائن مكتوب يرى كلَ مختلف قابلا لان يفهم ، وايَّ غامض ذهني مرشحا لان يكون يوميا.
كاتب – ثياب حداد بلون الورد – و- لو كانت للأبد نهاية – هذا المنعزل في غرفة ضيقة بشارع عشرين في مدينة الناصرية جنوب العراق تشبه مشجبا للكتب واغاني من كل الامم والشعوب يتحرك بين لوحات وتماثيل مراحل الفن المختلفة ، يأكل عند الحاجة فقط ويترجم امهات الكتب في عرينه ذاك. يرحل اليوم وعيناه لامعتان مثل طفولة حية في جسد منطفيء تشعراننا بالذنب ازاء ما اصابه .
ولد محسن خريش عبيد الخفاجي عام 1950. تخرج من دار المعلمين عام 1967 عمل معلما حتى تقاعد في 1996. كتب اعمالا مهمة تعد ركائز في تاريخ القصة العراقية – سماء مَفتوحة إلى الأبد – 1974 – ثياب حداد بلون الورد- 1979 طائر في دخان- 1996 و إيماءات ضائعة – 2001 – وشم على حجارة الجبل- 1983 و – العودة إلى شجرة الحناء- 1987 و – يوم حرق العنقاء- 2001 . و النازي الأخير وايفا براون- قصَص و -بيضة الغراب- – حب اسود- دموع ذهبية – قصائد) و – لوكانت للأبد نهاية –
عرفتُ محسن الخفاجي معلما رغم ان مظهره وخفة حركته لاتبدي لك ذلك. فهو معلم حين تراه وتقترب منه وتندفع معه الى معرفة حشود من الموسيقيين والرسامين والفلاسفة والروائيين من هرمان هيسة وماركيز ورولان بارت ووليم كولدنج وغونترغراس الى محمد خضير واحمد الباقري الذين يعتبرهما بمنزلة اولئك.
بعد رحيل جميع من يعيش في منزله ظل وحيدا مشغولا بفوضاه ،اراؤه التي يتندر الاخرون بها تحرجهم وتدفعهم للمراجعة ، ( الحياة مشروع ناقص) ، و(الاسرة وهم) ، و(الزواج خديعه )، و(الاستقرار كوميديا). و(الانسان منذ وجوده على هذه الارض في معركة خاسرة مع الزمن) .
اعتقل محسن الخفاجي بعد عام الفين وثلاثة واودع سجن – بوكا – الاميريكي الشهير ، تهمة محسن العجيبة كما يصفها انه لم يتعاون معهم للبحث عن مكان الاسيرة الامريكية المجندة جيسيكا لنش التي شاع نبأ اسرها جنوب العراق بداية الحرب على العراق كونه مترجما عن الانكليزية في المدينة . عثروا على جيسيكا بعد ان لجأت للعشائر هناك فصانت كرامتها وعادت الى بلادها فيما بقي محسن سجينا لثلاث سنوات ، مرحلة يصفها في كتاباته الاقسى و( تجربة غنية لايكفي مابقي من العمر لان انجز الكتابة عن مغزاها )
. ثلاث سنوات من الاعتقال احدثت دويا لدى المنظمات الانسانية والاوساط الثقافية في العراق والعالم ، وترجمت اعماله ليتعرف العالم على اشهر سجين في بوكا . دون ان يعرف من تسلموا السلطة في العراق معنى ذلك او يبادروا للسؤال عنه . ترك لثلاث سنوات يعيش بين معتقلين لاسباب شتى في سجن غرائبي معقد يصف نزيله في احدى قصصه بـ – سنجاب في مجاعة –
ربما لذلك كله لم يتغير مزاج محسن الوجودي مع المرض والشلل الذي اصابه عقب خروجه وظل مواكبا اغاني البيتلز وباري وايت وفرانك سيناترا القديمة ويعيش بين لوحات بيكاسو وفان كوخ ويكتب قصيدة النثر المثيرة التي لم يقدم نفسه يوما شاعرا لها . فهو حالم بجدارة – الكتابة لديه دار خلود شخصي . ووطن لن يستطيع احد احتلاله . توهموه متواضعا باثر ذلك ،وهو الذي عاش كل ما يمكن ان يعاش داخل الكتابة عاشقا وثريا مترفا ورحّالة يجوب العالم ويطارح النساء ويملك الجزر والاطيان وملكا يحكم العالم من غرفة رثة صغيرة في اقصى مدن العراق الفقيرة. وتصوروه مربيا وهو يقول – التعليم جناية – والفن حرب ضد الزوال.
” لالومٌ ولاكَراهيةْ
تقطعُ حَنجَرتي الخَرساءْ
التي تَبكي بصَوتٍ أجشْ
ذَهبتْ أحلامي الى ضريحِها في الرّمالْ.
انّه الفصْلُ الأخيرُ من المحنة.
كأنيّ خرجتُ من زلزالْ
وعليّ أنْ أُعدّ فديةً تليقُ بالحدَثْ
فاتَ أوانُ الصمتْ
سأنتظرُهم واحداً واحداَ وسيجتاحُهم غَضَبي
كموجةٍ تخترقُ سدّاَ في أعصار”
لن يمر رحيل محسن الخفاجي مرورا عابرا في زحمة الموت العراقي وجهاد الحياة المتعثر بعد ان توفي يوم السابع والعشرين من ايلول عن عمر اوصله للرابعة والستين. صوته واثره في ماكتب وما عاش وماعانى وما اراد وما ارسل من اشعاعات لمن تعلم منه ومن آذاه ومن اندهش لمبالغاته او غضب من نرجسيته،ومن سيطلع فيما بعد على تاثيره في تاريخ الادب العراقي ، كل ذلك يؤسس لاحتجاج طويل الامد ، هو احتجاج من نوع مختلف ، احتجاج على ازدواجية الحياة ،على الفناء الحتمي ،ذات الاحتجاج الذي تنبأ به ذو السادسة عشرة منتصف الستينات وهو ينشر قصة، يساوم فيها رجلٌ على فراش الموت كلبه من اجل شراء حياته.