(6) الإسلام صالح لكل زمان ومكان
الجزء الثاني
مقدمة:
عندما نُشر الجزء الأول من المقالة في المواقع الليبية، توقعت فوراً أن نشرها سيجر إلى اتهامي بفساد الفطرة والأخلاق، أما البقية فعمدوا إلى أن ما أكتبه إنما يُهين إيمانهم ويسيء لمشاعرهم الدينية، عدا عن ردود أخرى كثيرة، وسأرد في عُجالة هنا على من اتهمني بالإساءة لإيمانه، أما الرد على البقية فسيأتي في سياق محاولتي تفكيك مقولة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان من خلال التدقيق في متلازماتها من تعريف وتطبيقات في هذا الجزء وما يليه من أجزاء.
الإساءة لإيمان القرّاء وإيذاء مشاعرهم الدينية.
أولاً: إن مسألة إهانة إيمان الآخر تحتاج لوقفة، إذ لاحظتُ أنه دفعٌ متكرر ويستعمل ضدي وضد كثيرين، وهذا القول كما أراه هو قول متفذلك بامتياز، لأنه ليس من النوع الذي يأتيني بطرح معرفي، بل بطرح سلبي غالباً ما يطلب توقفي عن الكتابة والانشغال بشيء آخر أو تخويفي من نار جهنم، وقائله عادة شخص مجهول سواء كان من المعلقين أو الكتّاب الذين يردون عليّ بأسماء مستعارة، من دون إبراز أنفسهم وخبراتهم وعلومهم المفترضة، كي نتبادل النقاش ووجهات النظر حول أفهامنا للإسلام، وحول إمكانية ربطه بالحاضر من عدمه، وأن نتبادل ما لدينا من رؤى وقراءات دينية مختلفة لإثراء الحوار سيما بليبيا التي تعاني فقراً مدقعاً في كتابات النقد الديني.
ثانياً: نحن جميعاً نتشارك الإسلام وهو رافد مهم من روافد ثقافتنا، وأنا ملتزمة بالقول إنني أحترم حق الآخرين في التدين، لأنني أصنّفهم أناساً أحراراً ومسؤولين، لكن هذا لا يعطي لأحدهم حق الاستئثار بالإسلام دوناً عني أو عن البقية، وما يحدث هنا أنني أسندت لنفسي بنفسي، حق ألا أفكر كما يفكر الآخرون، وأن أفكر في الإسلام بطريقة أكثر دنيوية، لهذا فأنا أكتب لكم أشياء غير مقدسة، ولهذا يحق لكم دائماً انتقادها، ولهذا لم أحسب نفسي يوماً على السدنة والفقهاء الذين جعلوا كلامهم لكم مقدساً بصفتهم ورثة محمد ابن عبد الله، لكني أرى أن الآخرين لا يعاملونني بالمثل، لا يعتبرونني حرة ومسؤولة ولا يرونني شريكاً لهم في الإرث الإسلامي كثقافة عامة، لهذا أقول لهم إنني أحب أن أتمتع بما جلبته لنفسي بعد سنوات طويلة من الألم، من حرية التفكير وحرية السؤال وحقي في التشكيك ورفض التفاسير الجاهزة، ومن لم يُسغ كلامي هذا فما عليه إلا أن يتجاهلني ويهمل أي شيء يصادفه مني، وأن يحسب أن الله لم يخلقني، وستنحل المشكلة من طرفه ولا يعود يحس بأي ألم في إيمانه!
عودة لموضوع الفطرة:
أولاً: حين تحدثت عن الفطرة، رد بعض القرّاء بأن ثمة من تفسُد فطرته فلا يؤمن بالله، وهذا القول له تبعات خطيرة جداً، لكنني لاحظت أنهم يوجهّون هذا الكلام لي أنا ولا يرفعونه إلى لله، والسؤال هو كيف
تكون فطرة (جبلّة ملازمة لا يطالها تبديل) وتكون قابلة للانزياح رغم ذلك؟ ولماذا لم تنصلح فطرة المؤمنين بها أولاً!
لكن تمهلوا، إن الفطرة كما قال البعض هي الاستعداد العقلي لتقبل الإيمان بالله الواحد، لكن ماذا نفعل مع الآية 125 من سورة الأنعام (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء) والآية 177 من سورة الأعراف (سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، فمن جانبٍ يقول لنا القرآن إن الله قد فطرنا على معرفته من غير شك، ومن جانب آخر يقول لنا إنه مع هذا قد يضللنا ويختم على قلوبنا فنكفر به، فكيف يستوي الأمران معاً!
ثانياً: سبق أن ذكرت أن أمماً كثيرة كانت تكفر بالله، وأن الله اضطر إلى إبادتها جماعياً لأنها رفضت الإيمان به طواعيةً، والغريب جداً أنني وجدت من ينكر قولي هذا، مدعياً بأن الله قد أخذ الأمم البائدة بسبب تضييقهم على الأخيار فقط، لكن لو أننا تدبرنا قليلاً في قوم نوح (الآيات 105 إلى 111 من سورة الشعراء) حين أخذهم الله أخذاً تسبب في إلحاق كارثة بيئية مروّعة بكوكب الأرض، وأخذ معهم الحيوانات والدواب والحشرات والنباتات المسكينة، فإنه لم يكن إلا بسبب تكذيبهم رسالة نوح إليهم، ما ترتب عليه تأسيس مجتمع بشري جديد، كي يُعبد الله من دون وجود أي أثرٍ للكفر به بأي موضع كان، وما هي إلا أن تكرر الأمر مع ثمود قوم صالح (الآيات 61 إلى 68 من سورة هود)، الذين طلبوا منه آيةً على وجود الله، فخلق الله لهم ناقة فكذبوه وعقروها فأخذهم أجمعين، وكذا الحال مع عادٍ قوم هود (الآيات 65 إلى 72 من سورة الأعراف)، وهذا لأن الناس كانت تكفر بالله جماعياً وكان الله يقتلهم جماعياً، وقد تكرر الكفر الجماعي من الناس والقتل الجماعي من الله حتى زمن موسى نفسه، فاليهود كفرت برب موسى رغم ألوان العذاب التي رمامهم بها والتي لا يَطيقُها بشر، رغم أنه (أي موسى) قدّم بين يديهم المعجزات الإلهية وعَبَر بهم البحر ونجّاهم من فرعون بمعجزة لا تقع إلا من إله قادرٍ من غير ريب!
ثالثاً: ينقسم القرّاء بشأن أسباب فساد الفطرة إلى قسمين:
القسم الأول يقول إن ذلك إنما يحدث بسبب الظروف المحيطة بالأمم أو بالناس، وهو نفس القول الذي يتكرر اليوم حين يضربون لنا المثل التقليدي بأن يكون الشخص قد ولد بوسطٍ مسيحي أو يهودي، وأن العقل حينها هو الذي يؤمن لا الفطرة، لكن هذه إشكالية أخرى أليس كذلك؟ أعني أن الأمر سيستلزم أن ينضاف للفطرة الإيمان بمحمد بن عبد الله نبياً لله وهذا غير وارد بآية الفطرة، فهل سنكون أمام فطرة سوية لو أن رجلاً ما بالقرن الواحد والعشرين، قد أُتيح له أن يؤمن بإلهٍ واحدٍ أحد لم يلد ولم يولد لكنه يرفض الإيمان بمحمد بن عبد لله نبياً؟ أقول هذا لأنّ هناك عدداً من الجماعات الدينية الموحّدة التي تُخلِص العبادة لإله واحد لكنها لا تدين بالإسلام!
القسم الثاني يرمي بالأمر على الشيطان وهذه معضلة أكبر من الأولى كما أرى، فبموجب القرآن الذي أخبرنا عن قصص إبادة الأمم السابقة بسبب كفرها، يكون كيد الشيطان على ما يبدو ليس ضعيفاً لأنه
أضل أعداداً غير معروفة من البشرية، وكيده هذا سيلحق حتى بأمة الإسلام إذ ستفترق أمة محمد عن ثلاثٍ وسبعين شعبة، واحدة منها فقط ستدخل الجنة والبقية ستتلظى في الجحيم! ليس هذا فحسب بل يبدو الأمر وكأننا عرضة للوقوع في الضلال بفعل الله وبفعل الشيطان معاً حتى لنبدو عٌزلاً ومساكين وسط كل ذلك، وهذا ورد بالحديث النبوي وقد رواه غيرَ واحدٍ ممن يثق المسلمون بهم، والحق يبدو أن هذا الحديث قد تحقق الآن، إذ لا يمر بك يوم إلا وترى المسلمين يتفرقون إلى فرقٍ وكل فرقةٍ لها نسختها الخاصة من الإسلام تحتج بها على البقية، وكل فرقة تكفّر الأخرى حتى لا تعود تعرف من المسلمة منها!
رابعاً: بمناسبة موضوع الأخلاق الذي أثاره بعض القرّاء فهل الفطرة مقدمة على الأخلاق؟ سؤالي هذا يستهدف هذه المرة طبيباً لا يؤمن بالله (فاسد الفطرة على ما يبدو) لكنه يحمل قدراً كبيراً من الأخلاق النبيلة عالج بها المسلمين في غزة لدافعٍ إنساني محض وهو الدنماركي مادس جلبرت، مقارنة بالطبيب السعودي فيصل بن شامان لعنزي (سليم الفطرة من دون شك) حين ترك عمله بالسعودية والتحق بداعش في الموصل فقَتَل وذبح حتى قُتِل لدافع ديني محض هو إقامة الخلافة وتطبيق شرع الله، وقد انتشرت صوره وهو يحمل ساطوراً يستعمل للذبح وأخرى يتزنّر فيها ببعض المتفجرات وثالثة يرفع سلاحين ناريين بين يديه ورابعة يتأبط عَلَم داعش المعروف، فكيف يستقيم الأمر الآن بين فاسد الفطرة ذاك مادس جلبرت وسليم الفطرة فيصل لعنزي وأحدهما يداوي المسلمين لأجل الإنسانية والآخر يقتلهم لأجل الله!
خامساً: وبما أننا بموضوع الفطرة ما نزال، فهل الجن أهل فطرة أيضاً!
انتظروا أنا لا أسخر فالجن مكلفةٌ بالإيمان بالله، وقد آمن نفرٌ من الجن بالنبي ودلّل على هذا كثير من الآيات القرآنية، لكن سورة الروم كلمتنا عن فطرة بني آدم فقط لا بني الجن! وبما أننا نتكلم عن الجن فماذا لو أن ثمة مخلوقات عاقلة أخرى تنتمي لكواكب أخرى لكنها تعرف كوكب الأرض يا ترى؟ أعني هل هي مفطورة على الإيمان بالله ايضاً؟
إن بدا هذا السؤال ـ عن الجن والمخلوقات الفضائية ـ ترفاً بالنسبة لأحدكم فإنه سيكون موضوعاً للجزء الثالث من هذه المقالة.
الخلاصة:
إن فسدت الفطرة ولا تسألوني كيف لأنني لا أعرف فهل يجب حينها أن نؤمن بالعقل؟ وإن كانت الفطرة هي الإستعداد العقلي للإيمان بالله فكيف يستقيم الأمر ودين الله لا يُصاب بالعقول كما تقول بذلك طائفة من المسلمين، سيما أن الإيمان بالله نفسه لا يستلزم العقل بل يستلزم محض التسليم؟ ونحن كيف يجب علينا أن نؤمن بالضبط؟ بالفطرة؟ أم بالعقل؟ أم بالفطرة والعقل معاً؟ وماذا لو خالف العقل الفطرة؟ وماذا وهدايتنا بيد الله وحده بنهاية المطاف؟ وماذا أيضا وضلالنا يتحقق من الله والشيطان معاً بنفس الوقت؟ وهل أسئلتي هذه حرام؟!
يتبع …