تشغل الهند موقعا جغرافيا مهما على خارطة العالم وهي شبه جزيرة تشبه في منظرها قارة افريقية بوجه عام فهي عبارة عن مثلث غير منتظم الاضلاع قاعدته الى اعلى ورأسه الى اسفل وقاعدته جبال الهملايا الشامخة ورأسه رأس كوماري والهند بلاد مقفلة كما يسميها الباحثون فضلعا المثلث في الشرق والغرب يدور حولهما البحر اما قاعدة المثلث في الشمال فتحيط بها سلسلة جبال الهملايا وجبال سليمان ويحتضنها نهران عظيمان احدهما نهر الاندوس “السند” وينبع من جبال الهملايا ويصب في خليج العرب بعد ان يتصل بأنهار البنجاب (الانهار الخمسة) والاخر نهر كنكا او نهر الكنج وهو ينبع ايضا من جبال الهملايا ويصب في خليج البنغال بعد ان يتصل بنهر براهما بوتر المقدس ويشق الهند عند منتصفها تقريبا سلسلة من الجبال والادغال تبدأ من الغرب وتسير حتى قرب الساحل الشرقي وهذه السلسلة تقسم الهند قسمين يختلف احدهما عن الاخر في طبيعته وفي سكانه وحضارته , ومن بعد هذه المقدمة الجغرافية التي تضع القارئ في موطن الفكرة التي نريد تناولها نقول ان فكرة المنقذ والمخلص فكرة عالمية بكل معنى الكلمة فلا تجد ديانة وضعية (من صنع الانسان) او سماوية (مصدرها الله سبحانه وتعالى) الا وكانت هذه الفكرة تمسك بتلابيب قلوب اتباع هذه الديانة او تلك ويبدو ان حجم المعاناة التي تصادف الانسان في مسعاه للعيش وتلبية متطلبات حياته هي السبب من وراء اتباع هذا النهج ولو على سبيل الفرض لا الحقيقة اسقطنا النظرية الدينية التي تقف من وراء انتهاج هذا السلوك من التفكير والايمان بفكرة المنقذ والمخلص لقلنا ان دافعها الاول كان اقتصادي وبدوره ترك هذا الدافع تأثيره على نفسية الإنسان وعلى العموم تركت فكرة المنقذ والمخلص تأثيرا على عقلية المفكرين في الهند وانعكست في واقع مترجم بين ديانات الهند القديمة وهي بحسب ازمنة ظهورها “الهندوسية”([1]) و”الجينية”([2]) و”البوذية”([3]) واننا نجد تجسيد هذه الفكرة (المنقذ والمخلص) بين الهة الهند اذ تسفر لنا الدراسات الجادة لحضارات الهند القديمة عن حقيقة مفادها ان دراسة هذه الحضارة لا يمكن ان تكون في حالة تجاوز العامل الديني لان هذا العامل كان له ابلغ الاثر في الهوية الثقافية الهندية في الماضي والحاضر وكان له الاثر نفسه في الحركة الحضارية وما انجزته فكرا وسلوكا ونظاما اجتماعيا وعمراناً([4]) وقد تجسدت الافكار الدينية في الهند بصورة قد لاتشبه اي واقع ديني اخر من خلال النصوص الملحمية التي تجسد صراع الالهة لا من اجل الحصول على سيادة مجمع الالهة (الذي يضم جميع الالهة الرئيسية والفرعية التي يؤمن بها الشعب الهندي) والكون بل لخلاص الكون من الشرور وتحقيق النجاة ودليلنا على ذلك الاسطورة الهندية التي تقول بان الاله “اندرا” قام بقتل التنين السماوي الذي حجز مياه الاعالي في بطنه وتوسد على قمم الجبال العالية بهيئة سحابة لا تشكل لها اي لا صورة لها فيتمزق اشلاء بعد ان تصيبه صاعقة الاله في بطنه ويندفق الماء من جوفه ليسيل عبر السهول والوديان وتعود لطبيعة سيرتها الاولى بعد الجفاف الذي حل بها وبموت التنين الذي اغتصب سلطة الالهة تتراجع الهة الظلام التي جاءت معه الى العالم الاسفل وتعود الهة العالم العلوي الى مساكنها في قمة الكون من جديد وكان اول عمل قام به اندرا بعد انتصاره هو اعادة بناء مدينة الالهة التي استحالت يبابا خلال فترة حكم التنين فأتم ذلك على احسن وجه بواسطة الاله الموكل بالحرف والفنون الذي استعاد الوجه القديم للمدينة وزاد في تجميلها ففرحت الالهة لاندرا واعلنوه ملكا ومخلصا([5]) وعلى الرغم من ان الاله اندرا قد نال الحظ الاوفر من صلوات الفيدا (احد كتب الهند المقدسة) باعتباره سيد الالهة ورئيس مجمعهم الا اننا نجد في بعض الصلوات مقاطع تستهين بقوته وتلقي ظلالا من الشك حتى على وجوده([6]).
وفي الديانة الهندوسية وهي ديانة الجمهرة العظمى في الهند([7]) ولا يعرف لها واضع او مؤسس ولا يعرف اساس لكتابها المقدس (الفيدا) وقد نشأت هذه الديانة قبل عشرين قرن تقريبا قبل ميلاد السيد المسيح (ع) نستطيع القول ان الهندي متدين بطبيعته يشغف بالروحانيات وفي بلاد الهند اديان كثيرة ولكن الهندوسية هي دين الغالبية وهذه الديانة ترى في المنقذ او المخلص بانه رسول الاله وانه مثل نائب ملك عظيم ومثلما يقوم الملك اثناء حصول الاضطرابات والفتن بإرسال نائبه الى هناك لقمع تلك الفتن والاضطرابات كذلك يرى الهندي انه حيثما يوجد انحطاط وانحسار للدين في اي جزء من اجزاء العالم يرسل الاله مخلصه ومنقذه اي انه نفس المخلص الواحد الذي بعد ان غاص في بحر الحياة برز من جديد في هذا المكان حيث عرف باسم “كرشنا” الذي يشكل احدى تجسيدات الاله في الهندوسية([8]) وكرشنا هذا ورد في الفصول الثمانية عشر للعمل الشعري المعروف باسم “انشودة الرب” على النحو الاكثر كمالا([9]) وبمفهوم الهندوسية يمكن للإنسان الخلاص بذاته دون الحاجة الى مخلص او منقذ وذلك عبر اتباع نظام “اليوغا” وهو ممارسة قانون اخلاقي صارم من خلال اوضاع تقضي الى التأمل وضبط النفس الى “الاستغراق في التأمل” و”اليوغا” المعروفة عند المتحمسين الغربيين هي تطوير متأخر لهذه الممارسات المبكرة مع التركيز الشديد على اوضاع بدنية اكثر صعوبة تسمى “هاتا يوغا” وعلى نظرية فسيولوجية يسعى بمقتضاها اليوغي المستغرق في التأمل الى زيادة “كونداليني” وهي قوة روحية متصورة على هيئة افعى ترقد ساكنة في قاع النخاع الشوكي حتى الوريد الرئيسي الكائن في العمود الفقري خلال ستة دوائر للقوة السايكولوجية بطول العمود الفقري حتى اللوتس في قمة الرأس بحيث اذا اكمل اليوغي هذه الدورات فاز بالخلاص([10]) ومن اوجه الخلاص عند الهندي قيام السكان المنبوذين الذين حرمهم الهندوس من حقوقهم بعبادة كومة من الحجارة تمثل ام القرية وشيطانها وقد كان احد اوجه تفسير هذه العبادة بانه فكرة غامضة عن كائن سام([11]) بمعنى كائن رفيع المستوى ومن ذلك يستشف من هذه الفكرة ايمانهم بفكرة المنقذ او المخلص.
اما الديانة الجينية والتي تعرف لدى البعض من الباحثين بالجاينية او الجانتية فنجد ان هذه الديانة التي ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد كرد فعل على الهندوسية على يد مؤسسها “فارذامانا مهاويرا”([12]) والذي يعرف ايضاً بأسم “مهافيرا” قد وجدت فيها فكرة المنقذ والمخلص وقد صارت جموع غفيرة من الهنود في حالة من الفورة الروحية الذي تجسد بتركهم منازلهم واعمالهم ليهيموا على وجوههم في طول البلاد وعرضها والتخلي عن العالم للخلاص من تكرار الحياة والموت الذي تؤمن به هذه الديانة وترى في هذا التكرار زيادة في العذاب والالم وعلى هذا اعتبر اتباع هذه الديانة بان مهاويرا هو سبب انقاذهم او نجاتهم بفضل الديانة التي نشرها وهم بذلك يجدون فيه المنقذ والمخلص من تكرار الحياة والموت([13]).
اما بخصوص فكرة المنقذ والمخلص عند اتباع الديانة البوذية وهي الديانة الثالثة التي ابتدعها مفكري الهند في العصور التاريخية القديمة نرى ان هذه الديانة التي اسس لها “سذهاتا” الذي عرف باسم بوذا وهو لقب تم اطلاقه عليه من قبل اتباعه والذي يعني العارف المستيقظ قد ارتكز وجودها الفكري على الاقاصيص والحكايات الخرافية وتعرف هذه الاقاصيص باسم اقاصيص الولادة او “الجتاكاس” وتبدأ كل واحدة من هذه القصص بواقعة او حادثة في حياة بوذا تروى في الحاضر لتكون مناسبة لتذكر حادثة حصلت في حياة بوذا عندما كان “البوديسات” اي “البوذا المنتظر”([14]) وقد فسرت اسطورة مولده على انها قد شهدت ظهور بريق لامع في السماء من خلاله تسنى للأعمى ان يرى وللأصم ان يسمع وللابكم ان يتكلم واستقام الاعرج على ساقيه وانحنت الالهة من علياء سمائها([15]) الى اخر الاسطورة و”بوذا” لقب معناه الحكيم المستنير المبارك ويظهر ان نصوص الكتاب الهندي المقدس “الفيدا” بشرت بظهور حكيم يجدد ما طمسه الزمن من معالم الدين الهندوسي وينقي ما علق به بتوالي الاجيال فنرى سواد البراهمة (رجال الدين) والكهنة الراسخين في دراسة الفيدا يتوقعون مجيء حكيم يكون مخلصاً لهم([16]) ويبدو ان “بوذا” اقر بأنه هو من انتظرته الدنيا اذ تروي الحكايات بانه لدى مغادرته غابة “اورفيلا” التقى بتاجرين سلما عليه وقدما اليه الارز وقالا بخشوع “تنبأ المنجمون بانه سيخرج ذات يوم من هذه الغابة معلم كبير ونحن نرى انك انت هو ذاك المعلم الذي طال انتظاره والذي سينقذ العالم لذا سنسير من الان في ظلك وحسب قانونك وقد آمنا بك فاقبلنا في دينك”([17]) ويرى البوذيين بان غير البوذيين اي الذين لا يسيرون على نهج دين “بوذا” لا امل لهم في السعادة ويستحيل الخلاص بالنسبة اليهم([18]) وتشير احدى الاساطير الى ان الاله خاطب بوذا قائلا “هناك كائنات نقية من الادران الارضية وهي بحاجة الى رسالتك كي تبلغ خلاصها ان عليك ان ترفع المخلوقات الى ذروة الحقيقة فمن هناك يعرفون ما كان مخفيا عنهم عند السفح” وبقي بوذا مترددا وشك في الصوت الذي خاطبه الا ان ذلك الصوت كرر على اذني بوذا القول “قم يا ايها المعلم انهض شجاعا مقداما فسوف تكون المنتظر الاكبر بين البشر كافة”([19]) الا ان ذلك لا يخفي حقيقة ان الهنود البوذيين عقب وفاة بوذا لايزالون ينتظرون ظهور بوذا آخر ينقذ العالم مما فيه من بؤس وشقاء([20]).
[1]- تم تداول التراث الديني لهذا المعتقد أي الهندوسي بشكل شفاهي قبل تدوينه بعد القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
[2]- يعود تاريخ الجينية او الجاينية إلى القرن السادس قبل الميلاد.
[3]- برزت البوذية في القرن السادس قبل الميلاد.
[4]- اسعد السحمراتي , الحضارة الهندية (موسوعة الحضارات القديمة) , ط1 , (بيروت / 2011) , ص479.
[5]- فراس السوح , دين الإنسان , ط4 , (دمشق / 2002) , ص257.
[6]- فراس السواح , الأسطورة والمعنى , ط2 , (دمشق / 2001) , ص214.
[7]- حبيب سعيد , اديان العالم , (القاهرة / ب ت) , ص70.
[8]- هوستن سميث , اديان العالم , تر : سعد رستم , ط3 , (حلب/2007) , ص125.
[9]- جون كولر , الفكر الشرقي القديم , تر : كامل يوسف , ط2 , (بيروت/2001) , ص154.
[10]- جفري بارندر , المعتقدات الدينية لدى الشعوب , مجلة عالم المعرفة , العدد 173 لسنة 1978 , تر : إمام عبد الفتاح , ص133.
[11]- احمد شلبي , اديان الهند الكبرى , (القاهرة/1984) , ص51.
[12]- احمد علي عجيبة , الأديان الوثنية القديمة , (القاهرة/2004) , ص135.
[13]- عن هذه الفكرة وتطورها التصاعدي ينظر : البير ثوسيترز , فكر الهند وكبار مفكري الهند ومذاهبهم على مر العصور , (ب ط, 1994, ص69 ؛ غوستاف لوبون , حضارات الهند , تر : عادل زعيتر , (القاهرة / 2010) , ص662 ؛ محمد ضياء الرحمن الاعظمي , فصول في اديان الهند , (المدينة المنورة/1997) , ص158 – 160.
[14]- جوزيف كاير , حكمة الأديان الحية , تر : حسين الكيلاني , (بيروت / ب ط) , ص43.
[15]- كامل سعفان , معتقدات اسيوية , (القاهرة / 1999) , ص200.
[16]- علي زيعور , الفلسفة في الهند , (بيروت/1993) , ص239.
[17]- المصدر نفسه , ص214.
[18]- كولر , الفكر الشرقي القديم , ص320.
[19]- زيعور , الفلسفة في الهند , ص214-215.
[20]- رؤوف سبهاني , تاريخ الاديان القديم , (بيروت/2011) , ص256.