18 نوفمبر، 2024 2:30 ص
Search
Close this search box.

حتى داعش لم يوقظ فينا حمية

حتى داعش لم يوقظ فينا حمية

من أكثر تصريحات نوري المالكي إثارة للشفقة تصريحٌ ناري أطلقه في حزيران/ يونيو 2012 تعليقا على فشل خصومه في البلمان في سحب الثقة منه ومن حكومته، قال فيه: (بقينا نسمع هذا الكلام ست سنوات، وسنبقى نسمعه ست سنوات أخرى)، ثم سقط سقوطا مجلجلا ومهينا بدرجة لم يسبق أن ذاقها أي حاكم من نصف قرن، لا في العراق ولا المنطقة العربية كلها.

وقبله بنصف قرن من الزمان طيَّر نوري السعيد تصريحا ناريا مشابها يصعب نسيانه. فحين بلغته تقارير أمنية تقول إن ضباطا مهمين في الجيش يتآمرون لقلب نظام الحكم الملكي أطلق الباشا، بكبرياء وثقة عالية بالنفس، قوله الشهير (دار السيد مأمونة). لكن بعد هذا التصريح بشهور قليلة تبين أن دار السيد لم تكن مأمونة، وأن (أولاده) الضباط الذين خصهم بالرعاية والعناية البالغة لكي يكونوا حُماته وحُماة النظام الملكي كله هم الذين تآمروا عليه وأمروا بقتله وتعليق جثته على باب وزارة الدفاع.

بعد نوري السعيد بلغ الزعيم عبد الكريم قاسم نفس الدرجة من هذا الوهم القاتل الخطير. فقد آمن بأن جمهوريته (خالدة كعقاب الجو)، لكن رفاقه غدروا به، ذات يوم أسود، ومزقت رصاصاتهم رأسه وعنقه وصدره في ستوديو الموسيقى في الإذاعة، ثم بصق عليه، وهو قتيل، جنديٌ أرعن وغبي متخلف، على شاشات التلفزيون.

ثم لحق بهم بعد ذلك عبد السلام عارف الذي كان أكثر من أسلافه جميعا ثقة بخلود حكمه العتيد. ومن الأمثلة المضحكة على غروره واستخفاه بمعارضيه، حتى لو كانوا من رفاقه وشركائه في العقيدة. لكنه سقط فجأة وسقطت معه دولته في الهاوية.

ثم جاء الراحل صدام حسين فبزَّ كلَ أسلافه حكام العراق الراحلين في وهم تأسيس الامبراطورية الخالدة. فقد أنفق ثروات الوطن وكل قواه وهيبته وسيادته على أمنه ومخابراته، فأجهز على جميع الرؤوس والفئات والأحزاب والقوى التي ظن أنها تهدد نظامه المهزوز، حتى خلا له الجو، بالكامل، وهرب من بطشه غير المسبوق جميع المعارضين إلى الخارج، ومن لم يهرب منهم غاب واختفى في سجونه المظلمة، أو في مقابره الجماعية الشهيرة، حتى صار الجميع، أعوانُه وأعداءؤه، على حد سواء، يؤمنون بأن إسقاطه مستحيل، وراح العراقيون المغلوبون على أمرهم يتندرون ويغنون: (هلا بيك هلا، وبجدتك حلا)، أي أن عهده باق وسوف يتوارثه الأحفاد عن الأبناء، وأن العراقيين سيهتفون لحفيد ابنته حلا، وليس لابنها فقط. ثم انتهى (القائد المخيف) في ساعات، ببضع دبابات أمريكية، وبشلة من شطار المعارضة العراقية الحفاة العراة العائدين من مقاهي دمشق وطهران والرياض وعمان وواشنطن ولندن وباريس، ليرثوا قصوره ومزارع أبنائه وأحفاده وكبار أعوانه وتابعيه، ولكي يضع مجاهدو مقتدى وأبطال حزب الدعوة وموفق الربيعي حبلَ المشنقة حول رقبته، فمات وهو يظن أن حزبه سيعود إلى السلطة عن قريب وينتقم له من شانقيه. وها هي بقايا جثمانه تنتزع من مكانها وتُخفى في مكان سري لا يعرفه أحد، خوفا من انتقام مخالب قاسم سليماني ومطاريد مليشياته الخائبة .

إن المحزن في كل تلك الصفحات المؤلمة من تاريخ دولتنا الحديث أن نهايات جميع الموهومين بالسلطة وعشاقها الراحلين لا تخطر على بال أحد من ساسة المحاصصة الطائفية المستحدثة في

عراق الاحتلال. فعلى امتداد السنوات العشر الماضية تفننوا في الإمساك بـ (خوانيق) حتى حولوا أهله أسرى ورهائن.

ولو حدث جزء مما فعله داعش في أي بلد آخر يحترم نفسه وشعبه لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاشتعل الوطن كله شرفا وغيرة وحمية.

هل بلغكم آخر أخبار اتحاد السنة (الأخوين نجيفي والمطلق وكربولي والعيساوي وباقي المتاجرين بحقوق الطائفة السنية)؟

يقال إنهم رشحوا أسامة النجيفي نائبا لرئيس الجمهورية وصالح المطلق نائبا لرئيس الوزراء وكربولي لوزارة.

ولا يستبعد أن يعود علي الأديب وهادي العامري وحسين الشهرستاني وسعدون الدليمي وحسن الشمري وباقي شلة نوري المالكي.

أليس هذا هو التغيير الذي أراده الشعب العراقي وطالبت به المرجعية وعمار الحكيم ومقتدى الصدر وباراك أوباما وجو بايدن وجون كيري؟!!

ويقال أيضا إن رفاق النجيفي والمطلق وضعوا دراسة قدموها إلى حيدر العبادي بشأن إنشاء تشكيلات عسكرية محلية تصبح بمثابة (حرس الإقليم السني). وقيل إن الفكرة حظيت بدعم واشنطن. ويزعم أصحاب الفكرة أن تلك التشكيلات ستوزع على المحافظات السنية، بعد طرد (داعش)، لكي تتولى حماية المناطق”.

سؤال مهم، هل يتبنى حيدر العبادي شطارات الحرس السني القديم؟ إذن فهو يشعل حربا بينه وبين (العراقات) السنية المتقاقلة الأخرى، عراق داعش وعراق آيدن والعراق السعودي والعراق القطري والعراق التركي.

ألا يعرف أن داعش أسقط صلاحيات مفاوضيه أعضاء الاتحاد السني، وجعلهم أوراق شجر خريف تتقلب مع الرياح على قارعة الرصيف؟ وألا يعرف أنهم لا يستطيعون زيارة مساقط رؤوسهم ذاتها؟!.

وماذا عن (ثوار العشائر) السنية التي تسالم داعش وتقاتل جيوش الحكومة؟، وماذا عن سنة نوري المالكي، أحمد أبي ريشة وسعدون أبو ريشة الدليمي، ثم ماذا عن سنة علي حاتم سليمان.؟

من هنا أستطيع القول، وأنا بكامل قوايا العقلية السليمة، إن الغد ليس كما نرتجي، وأن النار لن تنطفيء عن قريب، وأن الأمن والأمان لن يعودا إلى مدن العراق وقراه، وأن المواطن لن ينام ليله خالي البال كما اشتهى وتمنى، ما دام هؤلاء وأؤلئك على رأس الوليمة.

لطالما حلمنا، ببراءة وحسن نية، بأن يسقط نوري المالكي ويخلفه زعيم حقيقي يرفع الزير من البير، ويأتينا بالذيب من ذيله. لكن الطاس عاد هو الطاس، والحمام عاد هو الحمام. فقد عاد الشيعة شيعة، والسنة سنة، والكورد كوردا.

بتعبير آخر، إن جميع احتلالات داعش وجرائمه وهمجيته لم تستطع أن تغسل سياسيينا من شرور أعمالهم، ولم توقظ فيهم حمية. فما المطلوب حدوثُه من زلازل وبراكين مدمرة لينهض الوطن من كبوته، وتعود إليه العافية؟

أحدث المقالات