«المواقف الجهادية المشرفة للأمام الحسن بن علي المجتبى(ع) لنصرة الإسلام والمسلمين، في ذكرى مولده الميمون».
ونحن نعيش في اجواء شهر الخير والبركة، شهر رمضان الفضيل أعاده الله علينا بالخير والبركة والنصر المؤزر على أعداء هذه الأمة، نعيش اجواء ذكرى الولادة الميمونة للأمام الثاني، الامام المظلوم الحسن بن علي بن ابي طالب(ع) في النصف من هذا الشهر الكريم.
فهو (ع): “الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان”.
وأمه فاطمة بنت رسول الله
(صلى الله عليها وعلى أبيها أفضل الصلاة وأتم التسليم)، وهو “النقي، الطيب، الزكي، المجتبى
وهو أول أهل الكساء،
وأول أحفاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم )
والذين طهرهم تطهيرا
وأذهب عنهم الرجس،
وباهل أهل نجران به وأوجب الله ودهم .
وهو من جملة الثقلين .
لما ولد (ع)
في ليلة النصف من شهر رمضان أوصلوا خبره إلى جده المصطفى
(صلى الله عليه وآله وسلم) فجاء إلى بيت الإمام علي
(ع) وحمل الحسن وطلب من فاطمة أن تناوله خرقة بيضاء
جاء بها جبرئيل من الجنة فلفه بها وأذن في أذنه
اليمنى وأقام في اليسرى وعق عنه كبشاً، وقال (ص): “اسمه الحسن ،
لأن الله تعالى انتخب له هذا الاسم المبارك
القليل التداول عند العرب”.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )
يحمل الحسن على كتفه أمام الناس ويكثر من تقبيله
والاهتمام به ومحاورته بألطف الكلمات وأرق الألفاظ وإظهار
كل ذلك أمام الآخرين ليدركوا عظمة الحسن (ع) ولتكون للحسن أرضية جماهيرية جيدة في المستقبل
تتحرك معه بكل وعي وفهم لمنزلة ودور الإمام الحسن
(ع) ومنذ نعومة أظافر الحسن أعلن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم )
“أن الحسن والحسين إمامان وأنهما قدوة وأسوة ومثل”.
وفي هذه المناسبة الشريفة اتشرف باستعراض ماتيسر لي من المواقف الجهادية المشرفة في الإسلام لهذا الامام الهمام بعد الصلاة على محمد وآل محمد صلوات الله عليهم اجمعين.
ومن خلال تلك المواقف سوف نتعرف على مدى حرص الامام المعصوم (ع) على مصلحة الإسلام العليا.
فقد شارك الامام في الكثير من الحروب الدفاعية للحفاظ على بيضة الإسلام من خلال مشاركته في الفتوحات الاسلامية في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، كيف لا وأبوه الامام علي بن ابي طالب(ع) الذي رعي مصلحة الإسلام من خلال بسالته وشجاعته الفائقة في رفع راية الإسلام وكسر شوكة الكفار والمنافقين، وهو القائل (ع): “َو الله لأسَلِّمَنَّ ما سَلمَتْ أمُور المسلمين ، ولم يَكن جَورٌ إلاَّ عليَّ خاصة”
وقد كان الامام الحسن(ع) مجاهدا باسلا وصنديدا مقاتلا، من خلال انضمامه إلى جيش المسلمين الذي اتجه إلى أفريقيا بقيادة عبد الله بن نافع ، وأخيه عقبة ، في جيش بلغ تعداده عشرة آلاف مجاهد، فكان رمزا فاعلا لشخص رسول الله (ص) وفألا حسنا لاستجلاب النصر المؤزر للمسلمين، من خلال تفاؤلهم بوجود حفيد رسول الله (ص) بين ظهرانيهم، فكانت الغزوة ناجحة ومسددة كما وصفها المؤرخون.
كما غزا ومعه شقيقه الحسين(ع)
من العام الثلاثين من الهجرة المباركة مع سعيد بن العاص عندما غزا خراسان ، ومعه حُذيفة بن اليمان وجمع من أصحاب رسول الله (ص) إلى جرجان فصالحوه على حدِّ تعبير الطبري على ساحل البحر ، فقاتلهم أهلها قتالاً شديداً ، عندها صلى المسلمون صلاة الخوف، وًبالتالي انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نصَّ على ذلك كثير من المؤرّخين.
نقلت لنا كتب التأريخ وقائع الفترة التي عاشها الحسن (ع) ابان فترة حكم عثمان بن عفان، وقائع تلك الفترة، “ومنها أنه بعد فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لإصلاح سياسة عثمان وأعوانه وعماله، وخوفهم على دينهم ودنياهم، زحفوا إليه من جميع الأقطار، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه بإصلاح ما أفسده هو وعُمَّاله، أو بالتخلي عن السلطة .
وكان أمير المؤمنين وولده الحسن (ع) وَسيطَين بين الخليفة ووفود الأمصار في محاولة للإصلاح، ووضع حدٍّ للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة .
ومما لا شك فيه أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين (ع) كانوا كغيرهم من خِيار الصحابة ناقمين على تصرّفات عثمان وأنصاره وعُمَّاله، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين (ع) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه
بل وقف(ع) منه موقفاً سليماً، وأراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتَّفق مع منهج الإسلام، وأن يجعل حدّاً لتصرَفات ذَويه وعُمَّاله الذين أسرفوا في تبذير الأموال واستعمال المنكرات” .
وكان موقفه كأبيه (ع)، في عهد خلافة عثمان، فعبَّر فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء ، وخصوصاً بعد أن ملَّ المسلمون سياسة عثمان وأعوانه وعمَّاله.
وكان دوره عندما آلت الخلاقة إلى ابيه علي بن ابي طالب (ع)، في حرب الجمل، وهي الحرب التي استَعَرت في إثر تمرّد طلحة والزبير في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين (ع)، وكان ذلك بقيادة عائشة .
فتمثَّل دور الإمام الحسن (ع) فيها بأمرين أساسيين:
الأمر الأول:
لما توجَّه أمير المؤمنين (ع) إلى ذِي قَار ونزلَها، أرسَلَ الحسنَ (ع) إلى الكوفة مع عَمَّار بن ياسر، وزيد بن صوحان، وقيس بن سعد، لِيستَنفروا أهلها لمساعدته على طلحة والزبير .
وكان قد أرسل قبلهم وفداً ، فعارضَهم أبو موسى، ولم يستجب لطلب أمير المؤمنين (ع) .
وأخيراً استجاب الناس لنداء الإمام الحسن(ع)، وخرج معه إلى البصرة اثنا عشر ألفاً، وكان أمير المؤمنين(ع) قد أخبر بعددهم وهو في ذي قار ، كما جاء في رواية الشعبي عن أبي الطفيل .
وأضاف إلى ذلك أبو الطفيل يقول: “والله لقد قعدتُ على الطريق، وأحصيتُهم واحداً واحداً، فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً” .
الأمر الثاني :
شارك الإمام الحسن (ع) في حرب الجمل إلى جنب أمير المؤمنين (ع)، وحمل رايته وانتصر بها على الناكثين، وهذا ما أجمع عليه المؤرخون.
وهكذا كان دوره (ع) في حرب
القاسطين المعروفة بـ”حَرب صِفين”، وهي حرب البغاة في الشام التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين(ع)، كدوره في حرب الجمل بل زاد عليه، حيث قام (ع) بتَعبِئة المسلمين للجهاد، وبذل جهده لإحباط مؤامرة التحكيم، والاحتجاج على المنادين به.
والآن نعرج على نقطة فارقة ومفصلية من حياة الامام (ع) عندما آلت اليه أمور خلافة المسلمين بعد استشهاد ابيه الامام علي وخليفة المسلمين الرابع (ع) على اثر ضربة أشقى الاولين والآخرين ابن ملجم (لعنة الله عليه)، حيث وبعد استشهاد ابيه (ع) “تسابق الناس إلى بيعته في الكوفة والبصرة،كما بايعه أهل الحجاز واليمن وفارس، وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه (ع).
وذكر كثير من المؤرخين مانصه: “ولما بلغ نبأ البيعة معاوية اجتمعَ بِكبار أعوانه ، وشرعوا بَحَبكِ المؤامرات ورسم الخطط لنقض بيعة الإمام الحسن(ع) وتقويض خلافته.
وعندما نستقرئ سيرة الإمام الحسن(ع) ومواقفه إزاء هذه المؤامرات والفتن تَتَجَسَّد أمامنا قِمَّة الفناء في الله سبحانه، واتِّخاذ مصلحة الإسلام العليا مقياساً حاسماً لمواقفه ومواجهاته(ع)، مضحِّياً بكل شيء دون ذلك .
ويمكننا الإشارة إلى ثلاث حالات قد مثّلت كُبرَيَات مواقفه(ع) الرسالية المشهودة في هذا السبيل:
الحالة الأولى:
إن الإمام الحسن(ع) رأى ابتداءًا أن مصلحة الإسلام العليا تقوم بالتعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان .
فقد اتَّخذ الإمام(ع) قراره هذا بعد مُراسلات متبادلة بينه وبين معاوية، أتمَّ فيها الحُجَّة عليه، وردَّ عليه محاولاته لإغرائه(ع) بالأموال والخلافة من بعده .
وكان آخر ما كتبه الإمام(ع) رادّاً عليه: ‘أمَّا بعد فقد وصلني كتابُك، تذكر فيه ما ذكرتَ، وتركتَ جوابك خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتَّبِع الحقَّ تعلم أنِّي من أهله، وعليَّ إثم أن أقول فاكذب، والسلام’ .
ولما وصله كتاب الإمام الحسن(ع) أدرك أن أساليبه ومغرياته لم تغيِّر من موقفه شيئاً، فكتب إلى جميع عُمَّاله في بلاد الشام :
‘أمَّا بعد : فإني أحمد إليكم الله، الذي لا إله غيره، والحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوِّكم، وقتلة خليفتكم .
إن الله بلطفه وحُسن صنيعه أتاح لِعليِّ بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله وقتله، وترك أصحابه متفرِّقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبِلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم، وجندكم، وحسن عدتكم، فقد أصبتم – بحمد الله – الثار، وبلغتُم الأمل، وأهلك اللهُ أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله’.
فاجتمعت إليه الوفود من كل الجهات وسار بهم باتِّجاه العراق.
ولما علم الإمام الحسن(ع) بذلك صعد المنبر، فأثنى على الله وصلى على رسوله (صلى الله عليه وآله) ، ثم قال (ع): بلغَني أن معاوية كان قد بَلَغه أنَّا أزمعنا على المسير إليه، فتحرَّك نحونا بجنده، فاخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة، حتى ننظر وتنظرون، ونرى وتَرَون.
الحالة الثانية
رأى الإمام(ع) أن مَدار مصلحة الإسلام العليا بعد خُذلان جيشه له وتفرقه عنه أن يقوم بعقد مُعاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان .
وفي هذا السياق ينقل لنا المؤرخون أن معاوية لمَّا أرسل خَيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد الله ردَّها أهل العراق على أعقابها .
وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد الله جاء فيها: ‘إن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلَّم الأمر لي ، فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً ، خيرٌ لك من أن تكون تابعاً بعد غد، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها، وعندما أدخل الكوفة أدفع لك النصف الثاني’.
ويدَّعي أكثر المؤرخين أن عبيد الله انسلَّ من قاعدته، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه، فوفَّى له بما وعده .
وكان موقف عبيد الله من جملة العوامل التي تسبَّبت في تفكّك جيش الإمام الحسن(ع)وتخاذله .
ونشط أنصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاَّ واستعملوها، واستَمَالوا إليهم حتى رؤساء ربيعة الذين كانوا حِصناً لأمير المؤمنين (ع) .
وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة، وأدرك الإمام(ع) كل ذلك، وصارحهم بالواقع الذي لم يَعد يَجُوز السكوت عنه، فقال (ع): ‘يا أهل الكوفة، أنتم الذين أكرَهتُم أبي على القتال والحكومة، ثم اختَلَفتُم عليه، وقد أتَاني أنَّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فَحَسبي منكم، لا تَغرّوني في ديني ونفسي’.
وكان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الإمام (ع) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله، وترك له أن يشترط ويطلب ما يريد .
فراح يُردِّد حديث الصلح في مجالسه، وبين أنصاره في جيش العراق، ويأمرهم بإشاعته .
وكاتَبَ القَادة والرؤساء به ليصرف أنظارهم عن الحرب، ويَبُثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع .
وكانت فكرة الصلح مُغلَّفَة بِلَونٍ ينخذع له الكثيرون من الناس، ويفضِّلونه على الحرب والقتال .
فلقد عرضها في رسالته الأولى على الإمام(ع) وأشاعها بين أهل العراق، على ألاَّ يقضي أمراً من الأمور بدون رأيه، ولا يعصيه في أمر أُريدَ به طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، فترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد .
كلّ ذلك لِعِلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطرّه إلى الصلح، لأنَّه أهون الشرَّين .
ولم يكن الإمام (ع) يفكِّر بصلح معاوية، ولا بمُهَادَنَته ، غير أنه بعد أن تكدَّست لديه الأخبار عن تفكّك جيشه، وانحياز أكثر القادة لجانب معاوية، أراد أن يختبر نواياهم، ويمتحن عَزيمتهم .
فوقف(ع) بمن كان معه في ساباط، ولوَّح لهم من بعيد بالصلح، وجمع الكلمة فقال(ع): ‘فَوَاللهِ إِنِّي لأرجو أن أكونَ أنصحُ خلقَ الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على أحدٍ ضغينة، ولا مُريداً له سوءاً ولا غائلة
ألا وإِنَّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم مِمَّا تُحبّون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليَّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإيَّاكم لما فيه مَحبَّتِه ورضاه’.
وهنا تنقَّح لدى الإمام (ع) موضوع مصلحة الإسلام العليا بدفع أعظم الضررين :
أولهما:
الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه وفناء أهل بيته (ع) وبقية الصفوة الصالحة (رضوان الله عليهم) من أصحاب رسول الله وأصحاب أمير المؤمنين وأصحابه هو (عليهم السلام).
ثانيهما:
القبول بالصلح ، وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة (عليهم السلام) وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم ، ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد (صلى الله عليه وآله) .
ويصدعوا بالحق أمام محاولات تضييعه ، وتحريف وتزوير دين الله وسُنَّة رسوله( صلى الله عليه وآله)، ليتَّصل حَبلُهم بحبل الأجيال اللاحقة ، ولتصل إليها معالم الدين الحق، ولتدرك حق أهل البيت (عليهم السلام) وباطل أعدائهم .
ولهذا اضطرَّ الإمام الحسن(ع) للصلح .
الحالة الثالثة :
وجد الإمام(ع) أن عليه – في سبيل بيان الأسباب والعلل التي ألجأته إلى عقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان – أن يكشف الحقائق، ويُظهرها، لتتمَّ الحُجَّة البالغة في إدراك حقيقة المصلحة الإسلامية العليا الكامنة في هذا الصلح، وقد تواصلت بياناته وخطاباته في هذا السبيل إلى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة .
وممَّا يروى في ذلك أنه بعد أن تمَّ التوقيع على الصلح، قدم معاوية إلى الكوفة للاجتماع بالإمام الحسن (ع)، حيث ارتقى معاوية المنبر ليعلن متحدِّياً كل المواثيق والعهود والأعراف أنَّه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن(ع) عليها .
وخاطب الناس المُحتَشَدة في مسجد الكوفة قائلاً : ‘والله، إنِّي ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لِتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك، وأنتم له كارهون’.
ثم قال : ‘ألا وإِنَّ كلَّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مَطلُول، وكل شرط شرطتُه فَتَحْتَ قَدميَّ هاتين’ .
وفي هذه الحال تَمَلْمَل أصحاب الإمام الحسن(ع) وأتباعه، فتجرَّأوا عليه، ووصفوه (ع) بمُذِلِّ المؤمنين (فصبر )(ع) صبراً جميلاً، وطفقَ يبيِّن لهم الحقائق التي خُفِيت عنهم في أجواء الانفعال، والعاطفة، والغضب، الذي اعتراهم من تحدِّي معاوية لهم، ونقضه لوثيقة الصلح، وتوهينه للإمام الحسن(ع) وأصحابه .
وممَّا روي عنه(ع) أنه قال لبشير الهمداني عندما لامَهُ على الصلح : ‘لَسْتُ مُذلاًّ للمؤمنين، ولكنِّي مُعزّهم، ما أردتُ لِمُصَالحتي إلاَّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تَبَاطُؤَ أصحابي، ونُكُولهم عن القتال'”.
ولقد أشار الإمام الباقر(ع) إلى هذه المَصلحة الإسلامية العُليا في صلح الإمام الحسن(ع) مع معاوية بن أبي سفيان بقوله : “والله، لَلَّذي صنعه الحسن بن علي(ع) كان خيراً لِهَذه الأمَّة مِمَّا طَلعت عليه الشَّمس”.
هذا وقد امتاز الامام الحسن المجتبى(ع) بميزات نادرة ورثها من جده رسول الله، وابيه أمير المؤمنين، وامه فاطمة الزهراء البتول سيدة نساء العالمين، (صلوات الله عليهم اجمعين)، لذا فهو أوسع الناس صدرا، وأفصحهم منطقا، وأصدقهم قولا، وهو امام قام أو قعد، مصداق حديث رسول الله(ص)، وهو ريجانة الرسول(ص) وسيد شباب أهل الجنة.
وما أجمل وأعظم دعائه عند وصوله إلى باب المسجد فيقول بعد أن يرفع رأسه: “إلهي ضيفك ببابك، يامحسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ماعندي بجميل ماعندك ياكريم”.
والحمد لله رب العالمين