تميّزت سبعينات القرن المنصرم بنكهة خاصة , بدخول اغاني و رقصات الديسكو للعراق المرفقة بتصاميم غريبة للبناطيل(البنطرونات).البنطرون اصبح عريض جدا من الاسفل و ضيّق جدا من الاعلى .يعتمد عرض البنطرون من الاسفل على مدى مواكبة لابسه للمودة,الاكثر عرضا هو الاكثراتصالا و فهما للمودة ,بحيث اصبح بعضها يقترب من المتر.اطلق العراقيون على هذا البنطرون اسم الجارليس.لا ادري بالضبط من اين جاءت هذه التسمية و لكنّني اظنّ بأنها جاءت بسبب ممثل امريكي مشهور بدور شرطي التحريات و اسمه جارليس برونسن و الذي كانت ملابسه في كلّ افلامه تتلائم مع المودة حينه. ايضا ساعدت فرقة آبا السويدية و التي تغني بالانكليزي على نشر هذه الثقافة الجديدة .كذلك المطرب الزنجي المشهور جيمس براون واخيرا فرقة الخنافس (و التي تعني البيتلز بالانكليزي و التي ظهرت في الستينات و استمرت في تأثيرها الغنائي و تأثيرها على المودة السائدة في السبعينات )و بسببها جاءتنا قصة الشعر المشهورة الخنافس و التي كانت تتميز بكبر حجم الشعر و طول الزلوف و التي كان المطرب العراقي فاضل عواد و المطرب الجزائري رابح درياسة (صاحب اغنية نجمة قطبية*)من الذين استهوتهم هذه القصّة.
في نهاية السبعينات كنت في الصف الثاني المتوسط ,في متوسطة الوحدة المختلطة و التي صارت ثانوية الباقر في العهد الجديد,كنّا نحاول جاهدين مواكبة المودة و كلّ على مقدرته و كان بنطرون الجارليس هو الوسيلة التي نعبّر بها عن انفسنا و عن مواكبتنا لما يحدث عالميا .
كان يوم الامتحان الشفوي لدرس اللغة الانكليزية لنصف السنة .الاستاذ المسؤول عن تدريسه لنا اسمه عبدالرزاق .كانت لدى استاذ عبدالرزاق بعض العادات و التي جاء قسم منها بسبب تعرضّه لبعض انواع التعذيب البعثية و ذلك لميوله اليسارية .كان كثير الصفنات .بعض صفناته تأخذه بعيدا عنّا و عن الصف و عن المدرسة و حتى عن كوكب الارض كلّه , حيث يغوص بعمق في تفكير داخلي يظهر لنا على شكل صفنة قد تستغرق 5 دقائق.من عاداته الاخرى المشهورة هي وضعه لسبابته اليمنى فوق الحنك ملامسة لنهاية الفم, و التي يقوم بها عندما يسمع جوابا خاطئا او جوابا لا يعجبه.انه وقت الشدائد , انه وقت الامتحان , و فيه يكرّم المرء او يهان .الامتحان الشفوي يعتمد كليّا على قول الطالب للمحاورة (الدايالوك)التي يريدها الاستاذ و ما اكثرهن.المحاورة كانت تحتوي على كلمات انكليزية بسيطة جدا مثل هلو ليلى و هلو زكي , كيف حالك زكي , كيف حالك ليلى , وهكذا .اختار استاذ رزاق طالبا اسمه صالح و طالبة اسمها سامية .صالح كان من اكسل الطلاب و لكنّه الاكثر مواكبة للمودة .الجارليس الذي يلبسه اعرض من المحيط الاطلسي .البنطرون نصف قماشه للجارليس و نصفه الاخر لبقية البنطرون .وقف صالح مواجها سامية و تسمّر في مكانه , حاول النطق فهربت الحروف منه و تبعتها الكلمات,مطّى رقبته يمينا ولكّن الكلمات استمرّت في الهروب منه ,مطّاها يسارا فكانت النتيجة مماثلة للاولى.لم يستطع ان يرغم لسانه على النطق .حاول جاهدا ان يأتي و لو بحرف واحد فلم يستطع و كأن الاحرف و الكلمات تآمرت ضده المسكين .بدأ يتصبب عرقا في يوم ربيعي كالينبوع , تمايل نحو السبورة مرة و نحونا مرة اخرى و كأنه نعجة مذبوحة تتألم لمنظرها.جاهد كثيرا لقول و لو كلمة واحدة او حرف واحد , و تنافس في ذلك مع الحائط و لوهلة ظننّا بأن الحائط سينطق قبله. حدّق استاذ عبدالرزاق فيه و صفن واضعا سبابته على حنكه .استمرت الصفنة و الى حين و كانت و كأنها الدهر كلّه للمسكين صالح .اخيرا كسر استاذ عبدالرزاق الصمت الابدي بمقولة و التي اصبحت مثلا تداوله الطلاب لسنين عديدة “ادري , اريد اخلي لك درجة .اشلون اخلّيها ؟ اي اشلون, اقيس الجارليس مالتك و اخلّي الدرجة ؟” كأنه مقطع تمثيلي هزلي لجارلي جابلن قوطع بقهقهات صاخبة استمرّت اكثر مما توقعنا و مما توقع استاذ عبدالرزاق , و كلّما حاول الاستاذ ان يكون جديّا , ضحك طالب بصورة عفوية و بقهقات لا يمكنه السيطرة عليها و التي تدفع الطلاب الاخرين على الضحك و التي اخيرا دفعت استاذنا الغالي على مجاراتنا الى ان انتهى الدرس.
كيف نقيّم المالكي ؟ كيف نضع له درجة؟ افعاله او بالاحرى ردود افعاله تذكرني بصالح .لقد فشل هذا الرجل في كل شيء لمسه , كل شيء تحدّث فيه او عنه او حتى حوله.فشل العراق الآن كدولة يأتي كنتيجة لفشل المالكي بالدرجة الاولى . اصبح المالكي ماركة مسجلّة للفشل و اخوته .تذكر كلمة الفشل فيأتي اسم المالكي رديفا.ماذا يريد ان يفعل هذا الرجل اكثر لكي يكون على يقين بانه فاشل ؟لماذا لا يستطيع معرفة هذه الحقيقة الواضحة ؟ هل هذه الحقيقة غير واضحة له بما فيه الكفاية ؟انه يفشل حتى في معرفة أنّه فاشل.
حفظك الله استاذ عبدالرزاق ان كنت حيّا و رحمك الله ان فارقت الحياة ,كيف ستقيّمه يا استاذي العزيز؟ و كأنّي بك تقول له “هل تريدني ان اقيس حجم عمامة عبدالحليم الزهيري و اخلّي لك درجة ؟” الدرجة له ستكون ليس كلمة فاشل و انّما خائب, بعد ان تحوّل فشله الى نكسة و خيبة اصابت العراق و العراقيين كلّهم في صميم القلب.
“قد يفشل الرجل مرارا في عمله ولكنه لا يعد خائبا الا اذا بدأ بلوم غيره “.. برنارد شو