سعد الحداد حضور أدبي وعطاء إنساني

سعد الحداد حضور أدبي وعطاء إنساني

في مدينةٍ تعبقُ بتاريخها وتتمسّكُ بهويتها كما يتمسّك العاشقُ بصورة حبيبٍ غائب، وُلد سعد الحداد، ذلك الذي عركَ الورقَ بالحبرِ حتى استحالَ بعضًا منه، ونهض من بين جنبات الحِلّة الفيحاء حارسًا لتراثها، ناسكًا في محرابها الثقافي، ومؤرخًا لجمالها المنسيّ. ليس اسم سعد الحداد مجرّد توقيع على صفحةٍ أو عنوان في فهرس، بل هو سيرةٌ متوهّجة بالحرف، محفوفة بالشغف، ومكلّلة بجهدٍ قلّ نظيره.

من محلة جبران، انطلقت رحلته في العام 1961، حاملاً صوته المعرفي إلى جامعة بغداد، ثم عاد ليزرع شجرة المعرفة في مدارس بابل، من متوسطة الرشيد إلى إعدادية الجهاد، ومن معهد إعداد المعلمين إلى اللجنة العلمية في مركز العلامة الحلي، تنقّل بين المؤسسات كما تتنقّل السنونوة بين الأغصان، تخلّف خلفها نغمةً لا تُنسى.

لم يكن سعد الحداد أستاذًا فحسب، بل كان مشروعًا متكاملًا للبحث والإحياء والتوثيق، سلّط الضوء على زوايا مغفلة من التراث العراقي، لاسيما الحِلّي منه، فجعل من كل وثيقة نبضًا، ومن كل شاعر منسيّ صدىً، ومن كل ركن ترابيّ ضريحًا للمعنى. نذر عمره للكتب والمخطوطات، يرمم ذاكرةً توشك على الانطفاء، وينتشل شذرات منسية من رماد الإهمال، حتى استحق عن جدارة أن يكون “شلالًا حلّيًا متدفقًا”، كما وصفته جمعية الرواد الثقافية.

أكثر من خمسين عنوانًا صدر له في التحقيق والتأليف، جلّها ينتمي إلى مكتبة التراث، تنوّعت بين دواوين شعراء قدامى، وسير أعلام حليين، وتحقيقات لنوادر النصوص، كان فيها الحداد لا مجرّد ناقل، بل محقّقًا ذا نفسٍ علميّ، وروح أدبية، ودقّة منهجية. وفي الشعر، كانت له وقفةٌ أخرى، يكتب القصيدة كمن يخطّ سيرة ذاتية لروحه، فتخرج قصائده مزيجًا من الألم الشفيف، والحب المُترف، والحنين الشجي، لاسيما في ديوانه “جفّت كؤوس العمر” الذي كتبه وكأنّه يسكب من قلبه قبل قلمه.

لم يتقوقع سعد الحداد في غرفة التحقيق، بل كان فاعلًا في المشهد الثقافي والإعلامي، إذ شارك في تحرير وإصدار مجلات وصحف ثقافية عدّة، منها “المحقق” و”الفيحاء” و”شبابيك” و”بابل الأسبوعية”، وأسهم في تأطير الحراك الثقافي في بابل عبر منظمات ومراكز تراثية ومجتمعية، لا تكاد تُعدّ، حتى ليبدو حضوره خيطًا رابطًا بين كل جهد ثقافي عرفته المدينة في العقود الثلاثة الأخيرة.

 

الجوائز والتكريمات لم تكن سوى اعتراف متأخر بجميل صنعه وعمق رسالته، أما دراسات النقاد والباحثين عنه، فكانت شهادة حيّة على فرادة أثره، وآخرها رسالة ماجستير بعنوان “الرثاء في شعر سعد الحداد”، وكأن الحداد ذاته صار من رموز الرثاء، لا لأنه راحل، بل لأن شعره ينزف كما تنزف المدن العتيقة حين تُنسى.

   لقد ترجمت أعماله، وذُكر اسمه في معاجم وموسوعات كثيرة، وتحوّلت سيرته إلى مرجعٍ لمن أراد أن يفهم كيف يتّحد الباحث بالشاعر، والمحقق بالمحب، والأكاديمي بالمناضل الثقافي. ففي عالم يتهاوى فيه المعنى، ظلّ سعد الحداد حارسًا أمينًا لذاكرة المكان والناس، ومعلّمًا أجيالًا من الباحثين كيف تكون الكلمة مسؤولية لا مجرد أداء.

هكذا هو الحداد: لا تكتمل مكتبة الحلة بدونه، ولا يُكتب عن تراثها إلا ومرّ ذكره عطرًا على الصفحات. وفي زمن الموجة والسطح، ظلّ هو الغائص في الأعماق، يبحث عن اللؤلؤ في صدفة النسيان، ليعيده إلى الضوء.

   ولم يغب نتاج الدكتور سعد الحداد عن أنظار الباحثين، بل كان مدار اهتمام أكاديمي وثقافي متزايد، حتى اختير موضوعًا لرسالة ماجستير سنة 2022 عن تجربته الشعرية، لا سيما في فن الرثاء، وقد رأت الدراسة فيه شاعرًا مزج بين صدق العاطفة وصرامة الشكل، فصاغ المراثي كما تُصاغ الوصايا، نابضة بالحزن، متماسكة بالبناء. وعدّه نقاد وباحثون “شاعرًا يكتب بمداد المحققين، ومحققًا يُمسك بروح الشعر”، وقد أُشيد بمنهجه في التحقيق لتوازنه بين الأمانة العلمية وحسّ النص، حتى غدت أعماله التحقيقية مراجع معتمدة في مكتبات الجامعات ومراكز البحوث، ولا سيما “موسوعة أعلام الحلة” التي عُدت إحدى أبرز المحاولات في توثيق الأثر الثقافي لمدينة عراقية. كما توقف أكثر من باحث عند جهده في جمع وتحقيق “ديوان السادة الحلّيين”، معتبرين عمله إحياءً لتراث مغمور كشف عن طبقة شعرية فاعلة في نسيج التاريخ الثقافي للنجف والحلة على حد سواء.