مقامة حديث خرافة يا أم عمرو!

مقامة حديث خرافة يا أم عمرو!

حدّثنا الأديب أبو بكر العراقي , قال : كنتُ ذات يوم أسير في سوق الكُتب القديمة ببغداد , أرض الرشيد التي أضحت مرتعاً لكلِّ غريب ووبال , فمررتُ بمتجرٍ ضيِّق , فيه شيخٌ ناحل , جالسٌ على ركامٍ من المخطوطات التي أكل عليها الدهر وشرب , وبيده ورقةٌ صفراء عليها بيتُ أبي العلاء المعرّي : (( حياةٌ ثم موتٌ ثم بعثٌ حديثُ خرافةَ يا أمَّ عمروٍ )) , فألهمني البيتُ أن أسأل الشيخ عن أصل هذه الخرافة , وهل ما زال للعراق نصيبٌ من الأحاديث المستملحة المكذوبة التي لا يقبلها عقل ولا منطق , أم غلبت الحقيقة الكالحة كلَّ خيال؟ تنهد الشيخ تنهيدةً لو وزّعت على أهل دجلة لأغرقتهم , وقال : (( يا ولدي , كلُّ ما نراه اليوم في بلادنا هو حديث خرافة طويل , تتناقله الأجيال ولا تكاد تُصدّقه , لقد قيل قديماً إنّ خرافة كان رجلاً من عُذرة أسَرته الجن , فرأى من الأعاجيب ما جعله مضرباً للمثل لكلّ قولٍ لا يُصدَّق , ولكن ما نراه اليوم , فاق كلَّ أعجوبةٍ حكاها خرافة عن لقاءاته بالجِن , بل حتى قصصهم عن الجِنّي الذي طارد عِجلاً سبعين عاماً , والجِنّي الذي مُسِخ مرتين بين رجل وامرأة , والجِنّي الذي ركب بغلته المسخوخة من أمه الخائنة , كلها تهون أمام خرافة العراق اليوم )) .

الفاسد والبلاء المبين : قلتُ للشيخ : (( ويحكَ , ما خرافة العراق التي تُقارنها بما هو أشدُّ غرابة ؟ )) , هزَّ الشيخ رأسه وقال : (( الخرافة يا ولدي هي أن تصدّق إمكانية إخراج هؤلاء الفاسدين من سُدَّة الحُكم , تلك هي القصة التي لا يتقبلها عقل ولا منطق , وكلُّ حُبكة درامية فيها نهايتها مُعلَّقة )) , ثم أشار بيده النحيلة إلى لقطةٍ حُفرت في ذاكرته من فيديو شاهده , وكأنها تمثيلٌ لحالنا:  (( أربعة أشخاص يدخلون حديقة عامة بمنشار كهربائي ,يختارون شخصاً عشوائياً ويربطونه ويبدؤون بتقطيعه نصفين , ثم يقطعون المُحتجّين على وحشية الموقف  , تلك يا ولدي , هي صورة الفساد عندنا ,أربعة (أو يزيدون) يستبيحون جسد الوطن أمام الملأ, يقطعونه بـالمناشير تارةً , ويُفرِّقون ثرواته أخرى ,والأدهى أنَّهم يستمرون في التقطيع , وكلما ارتفع صوتٌ محتجٌ قالوا له : اصبروا ,هذا هو الإصلاح )) .

الخيال يُضاهي الواقع , انظر إلى عجب هذه الخرافة الفاسدة : نصفُ البلدِ نائمٌ على مصطبة اليأس , يرى نصفَه الآخر يمشي حرّاً متألماً ,والجمهور في هلعٍ وخوف , لا قطرة دم تظهر أمامهم, ولكن جراحات الروح غائرة , وعندما يظهر من يقول: إن الإصلاح ممكن , وإن التغيير آت , يكون حديثه هو حديث خرافة يا أم عمرو,  تماماً كذاك المشهد في الفيديو, الذي يظنُّ المُشاهد أنَّ الرُعب حقيقي ,ثم يكتشف أنَّ الجمهور نفسه كان جزءاً من فريق التمثيل , وأن هلعهم هو ما جعلنا نصدق الكذبة , (( هؤلاء الفاسدون , يا بني , قد أحكموا قبضتهم على السلطة , وتفنَّنوا في نهب القُوت , وسيطروا على مفاصل الدولة , كلُّ حديث عن إصلاح في ظلِّ وجودهم هو محضُ خيال , رواية لا يُصدِّقها حتى الأساطير التي تعني الأحاديث العجيبة , هم الأساطير التي دوَّنها الإنسان عن الوُحول , ونحن الشعب الذي رفض هذه الأسطورة فكُنِّيت بـ الخرافة)) .

(( ماذا تتوقع من بلدٍ ما زال بعضُ أهلِ سُلطته يعتقدون بأحاديث منسوبة عن الأرضين السبع , ويفسِّرون الواقع بتلك الروايات التي رفضها العقل ؟ إنهم يقدّمون لنا كل يوم بطلاً متخيلاً بعيداً عن الواقع , لا يصلح لأن يكون مثالاً يُحتذى به , يَعِدُنا بلبنٍ وخمرٍ في الآخرة , بينما يُجرِّعنا المُرَّ والذُلَّ في الدنيا , فحالنا كحال ديك الجنّ الشاعر: (( أأترك لذة الصهباء عمدًا لما وعدوه من لبن وخمر ؟ حياة ثم موت ثم بعث حديث خرافة يا أم عمرو )) .

خاتمة اليأس والأمل : (( يا ولدي , طالما أنَّ عقلية أهل الصحراء في زمن انقطاع الحضارات هي التي تحكم , وطالما أنَّ هؤلاء الفاسدين هم القابعون على الكرسي , فإنَّ محاولة إصلاح وضع العراق هي الوجه الجديد لـ حديث خرافة يا أم عمرو , لا إصلاح يُرجى ما لم يُقطع دابر الفساد بالمنشار, من أساسه , فلا تتوهمن إصلاحاً ما دام المُفسدُ في السلطة )) , ثم أغلق الشيخ عينيّه وكأنّه يودِّع هذه القصة , وقال بصوتٍ خافت : (( رحم الله العراق وأهله , فما بقي لنا إلا أن نروي حكاياتنا عن هذا الواقع الخرافي لعلَّه يكون عبرة لمن يعتبر , إن كان في الأمة من يعتبر )) , أليس هذا يا شيخ , هو جوهر المأساة ؟ أن يصبح الأمل في الإصلاح هو الخرافة الكُبرى التي لا يصدقها عاقل؟