حجية أحكام رد الدعوى الدستورية

حجية أحكام رد الدعوى الدستورية

يتفق الفقه على أن الأحكام الصادرة عن القضاء الدستوري المتضمنة الحكم بعدم الدستورية، تكتسب حجية مطلقة في مواجهة الكافة.
كما أن الأحكام الصادرة بردّ الدعوى الدستورية لأسباب شكلية لا تتمتع بهذه الحجية المطلقة، باعتبار أن الردّ إنما يرجع إلى عدم استيفاء متطلبات هذه الدعوى أو لعدم سلوك الطريق الإجرائي السليم في إقامتها.
ويجمع الفقه أيضاً على أن صدور دستور جديد أو إدخال تعديل على الدستور النافذ يتضمن مبادئ تتعارض مع النص الذي سبق ردّ الطعن بعدم دستوريته لأسباب موضوعية، لا يحول دون إعادة الطعن بذلك النص مجدداً، باعتبار أن المرجعية الدستورية قد تبدلت، وأن ما كان مقبولاً في ظل الدستور السابق قد يغدو مخالفاً في ظل الأحكام الدستورية المستحدثة.
غير أنّ الاجتهاد الفقهي قد تباين بشأن مدى حجية الأحكام الصادرة برد الدعوى لأسباب موضوعية تتعلق بعدم تعارض النص المطعون فيه مع أحكام الدستور النافذ؛ فهل تُضفي هذه الأحكام حجية مطلقة تحول دون إعادة إثارة الموضوع ذاته في ظل الدستور نفسه، أم أن الباب يبقى مفتوحاً لإعادة الطعن بالنص أمام القضاء الدستوري متى برزت مبررات أو دفوع جديدة؟
وقد ذهب الاتجاه الأول إلى أن حجية الحكم الصادر بردّ الدعوى لأسباب موضوعية هي حجية نسبية، ولعل أبرز الأسباب التي استند إليها هذا الاتجاه هو وجود تماثل بين الدعوى الدستورية ودعوى الإلغاء الموجّهة ضد القرارات الإدارية، من حيث كونهما من الدعاوى العينية. فالحجية المطلقة التي تسري على الجميع تقتصر على الأحكام الصادرة بالإلغاء، وذلك لما يترتب عليها من إعدام القرار الإداري واعتباره كأن لم يكن، باعتبار الدعوى في حقيقتها موجهة إلى القرار ذاته. أما الأحكام الصادرة برفض الطعن، فلا تتجاوز حجيتها النسبية بين أطراف الخصومة دون أن تمتد إلى الغير.
كما يرى أنصار هذا الاتجاه أن الحكم بعدم الدستورية يؤدي إلى إقصاء النص المقضي بعدم دستوريته من المنظومة القانونية نهائياً، في حين أن ردّ الدعوى لأسباب موضوعية لا يرتب الأثر ذاته، الأمر الذي يفتح المجال لإعادة إثارة المسألة الدستورية لأسباب أخرى لم تكن محلاً للحكم السابق. أما القول بخلاف ذلك، فإنه يعني تحصين النص القانوني محل الطعن من أي مراجعة لاحقة، رغم احتمالية تعارضه مع أحكام الدستور النافذ، وهو ما يُعد مساساً بمبدأ سمو الدستور وعلو قواعده على ما سواها، لذا فإنَّ الأحكام الصادرة بعدم الدستورية وحدها هي التي تُحدث أثراً جديداً يتمثل في إقصاء النص المطعون فيه من المنظومة التشريعية، وهذا الأثر المستجد هو الذي يبرر إلزام الجميع بها. أما الأحكام القاضية بردّ الدعوى، فإنها لا تُنتج الأثر ذاته، لعدم تحقق العلة التي تُبرّر الحجية المطلقة.
إلا أن اتجاهاً آخر يذهب إلى خلاف ذلك، إذ يرى وجود فارق جوهري بين الدعوى الدستورية ودعوى الإلغاء، على الرغم من انتمائهما معاً إلى القضاء العيني. فالقاضي الدستوري غير مقيد بالأسباب التي يوردها المدعي، إذ يملك أن يستند إلى أسباب جديدة لم تُطرح أمامه ويبسط رقابته في ضوئها. أما قاضي الإلغاء، فيظل مقيداً بالأسباب الواردة في عريضة الدعوى، ولا يجوز له تجاوزها إلا إذا تعلقت بالنظام العام.
ومن جانب آخر، ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى عدم جواز معاملة القرار الإداري معاملة النص التشريعي؛ فالقرار الإداري قد يكون صحيحاً في مواجهة فرد معين، لكنه قد لا يكون كذلك في مواجهة غيره، بينما النص التشريعي يتميز بعموميته وتجريده، فإذا شابه عيب بعدم الدستورية فإن أثر ذلك يمتد إلى الجميع دون استثناء.
في المقابل، يذهب اتجاه ثالث إلى الأحكام الصادرة بالرد تأسيساً على وجود عيب شكلي أو إجرائي – كالإخلال بإجراءات اقتراح التشريع أو مناقشته أو إقراره أو إصداره – لا تحول دون إعادة الطعن في النص ذاته متى كان ذلك مبنياً على مثالب موضوعية تمس جوهره وتدفع به إلى دائرة المخالفة الدستورية. ويستند هذا الاتجاه إلى أن الحكم برفض المطاعن الشكلية لا يترتب عليه تطهير النص التشريعي من العيوب الموضوعية.
ويُفهم من هذا الاتجاه أنه يميّز بين نوعين من الردّ لأسباب موضوعية: فإذا انصبّ الرد على سلامة الإجراءات المتصلة بتشريع النص، فإن حجيته تكون نسبية، ويظل من الممكن الطعن في النص ذاته متى تبيّن أنه يتعارض مع حكم دستوري، كأن يمسّ الحقوق والحريات العامة المقررة في الدستور. أما إذا كان الردّ مؤسساً على عدم وجود تعارض بين النص المطعون فيه وأحكام الدستور ابتداءً، فإن الحكم يكتسب في هذه الحالة حجية مطلقة تحول دون إعادة إثارة الطعن.
لكننا نرى أنه لا يوجد ما يمنع إعادة النظر في نص سبق للقضاء الدستوري أن ردّ الطعن فيه لأسباب موضوعية، ولا سيما أن بعض العيوب الدستورية قد لا تتضح عند نظر الدعوى ابتداءً، وإنما تظهر مع مرور الزمن.
ونخص بالذكر هنا العيوب الخفية، كعيب الانحراف التشريعي، إذ قد لا تنكشف غاية المشرّع منذ الوهلة الأولى، خصوصاً عندما يكون النص الطعين منسجماً ظاهرياً مع الدستور من الناحيتين الشكلية والموضوعية، غير أنّه في حقيقته يخفي غايات بعيدة عن المصلحة العامة تقف وراء تشريعه.
ومن وجهة نظرنا، فإن الأحكام الصادرة عن القضاء الدستوري، حتى في حالة ردّ الدعوى، ينبغي أن تقتصر على بيان النتيجة دون أن تتضمن وصف النص الطعين بأنه دستوري.
فالأَولى والأدق أن يقتصر الحكم على ردّ الدعوى لعدم وجود سند من الدستور، دون أن يُكسب النص محل الطعن حصانة أو مشروعية دستورية مطلقة قد تُفهم ضمناً من منطوق الحكم.
ومن شأن هذا التوجه أن ينسجم مع منهج قضائي رصين يجنّب تحصين النصوص محل الطعن، ويُبقي الباب مفتوحاً لإعادة النظر فيها إذا ما ظهرت عيوب دستورية لاحقاً.

أحدث المقالات

أحدث المقالات