“فوالله ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا.” — الإمام علي عليه السلام
“الناس المجروحون خطيرون. فهم يعرفون أنهم قادرون على النجاة.” — جوزفين هارت
حين سقط النظام العراقي عام 2003، ظنّ كثيرون أن صفحة الطغيان قد طُويت، وأن المعارضة التي عانت لعقود ستُقيم دولة العدل والسيادة. لكن ما حدث كان نقيضًا لذلك. المعارضة التي كانت تُدين الاستبداد، مارسته. والتي كانت تُبشّر بالسيادة، باعتها.والتي كانت تُنادي باسم الشعب، خانته.
لقد دخلوا الحكم مثقلين بجراحهم، لكنهم لم يُعالجوها. بل حملوها إلى السلطة، وجعلوها مبررًا للتبعية، وللفساد، ولإعادة إنتاج الطغيان.
من المنفى إلى القصر: ولادة طبقة مملوكية جديدة
في كتابنا “عصر المماليك الثاني” وصفت بدقة كيف تحوّلت المعارضة العراقية إلى طبقة حاكمة تُشبه المماليك:
لقد سكنوا القصور التي كانت رمزًا لطغيان البعث، وورثوا أدواته، بل طوّروا أساليب فساده؛ فأصبحوا وكلاء لا قادة، وأدوات لا رموز، وموظفين في خدمة مشروع خارجي لا أبناءً لمشروع وطني.
وهكذا، نشأ عصر المماليك الثاني: طبقة سياسية هجينة، تتحدث باسم الشعب لكنها لا تنتمي إليه، وتُدير الدولة لكنها لا تملكها، وتُمارس السلطة لكنها لا تحمي السيادة.
الجرح كذريعة للتبعية
المفارقة الكبرى أن هذه الطبقة كانت تحمل جراحًا حقيقية: النفي، السجن، القمع، الإقصاء. لكنها لم تُحوّل هذه الجراح إلى مشروع للشفاء، بل إلى ذريعة للتسلّط.
فكلما واجهوا الانتقاد، قالوا: نحن من عانى، نحن من ضُحي به، نحن من يستحق.
لكن الجرح لا يُعطي شرعية للتبعية. ولا يُبرّر الخضوع. ولا يُعفي من المسؤولية.
لقد أصبحوا خطيرين، لأنهم نجوا. ولأنهم تعلّموا كيف يُراوغون، كيف يُساومون، كيف يُبرّرون. وحين أُتيحت لهم السلطة، لم يُمارسوها كأمانة، بل كغنيمة.
من مقاومة الاحتلال إلى خنوع له
كانوا يرفعون شعار مقاومة الاحتلال، فإذا بهم أدوات له. كانوا يُدينون التبعية، فإذا بهم يُكرّسونها. أصبحوا عاجزين عن إدارة الدولة، وعن حفظ مصالح الأمة، وعن حماية سيادة الوطن.
وقد غُزي العراق، وسُلّمت مقاليده لمن لا يملكون مشروعًا، ولا رؤية، ولا كرامة. فذلّوا، وذلّت معهم الدولة، والشعب، والهوية. وهم بعد حوالي ربع قرن من الزمان عن بداية الاحتلال تجدهم يتبعون أوامر المحتل ويخافون من عقابه ويلهثون خلفه ويستجدون عطفه.
وكما قال الإمام علي عليه السلام: ”فوالله ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذلّوا“.
من السيادة إلى التبعية: انهيار الدولة
في عصر المماليك الثاني، بيننا كيف تحوّلت مؤسسات الدولة إلى أدوات للتمكين الحزبي، وللصفقات الطائفية، وللخضوع الإقليمي والدولي. فلم تعد الدولة عراقية، بل موزّعة بين الولاءات؛ ولم تعد السيادة هدفًا، بل عبئًا. ولم تعد الأمة مرجعية، بل ورقة تفاوض.
وهكذا، تحوّلت المعارضة إلى نسخة من الطغيان والفساد الذي أسقطته. بل في بعض الأحيان، بما هو أسوأ. لأنها فعلت ذلك باسم الدين ، وباسم الطائفة، وباسم المظلومية.
دعوة إلى الجيل الجديد
جيل اليوم ينظر إليهم، فلا يرى فيهم قدوة، لا في ايديولوجياتهم السياسية ولا في شعاراتهم الطائفية، بل يرى فيهم خيانة. يرى فيهم تشويهًا للدين، وللوطن، وللأمل. فيرى أن قادة أحزاب المعارضة حين وصلوا للسلطة واستحوذوا عليها من قبل المحتل، لم يُغيروا شيئًا، بل كرّروا نفس أخطاء قادة نظام صدام، عملوا بنفس أدواته، بل وحتى بنفس عقليته.
وهنا، لا بد من وقفة حضارية. لا بد من إعادة تعريف السلطة التي أقامها المحتل الامريكي ونصّب على العرش قادة المعارضة الذين مازالوا بعد 23 عاماً يتربعون عليه. فلا بد من بناء مشروع لا يقوم على الجرح، بل على الشفاء؛ ولا على المظلومية، بل على المسؤولية؛ولا على الغنيمة، بل على الأمانة.