30 سبتمبر 2025 11:16 ص

يتساءل دوستويفسكي متعجبًا: (( كيف احتملت فكرة أنك تركت ثغرة مؤلمة في صدر أحدهم سترافقه طوال حياته, ثم مضيت هكذا دون أن تكترث لشيء؟ )) تلك هي تراجيديا الخذلان  , ويُعرف الخذلان لغويًا بأنه مصدر للفعل (( خذل )) , ويعني ترك الشخص أو عدم نصرته , أما اصطلاحيًا فهو ترك العون والنصرة لمن يعتمد عليك ويظن بك خيراً , إنه شعور قاسٍ ومؤلم , وجع غير متوقع من مصدر غير متوقع , وأشد مرارة من العداوة , لأن العدو لا يُتوقع منه سوى الأذى , بينما الخذلان يأتي ممن تُحب وتثق.

 عند الجاحظ , يرتبط الخذلان بالانهيار الأخلاقي والضعف أمام الأعداء , وينتج عن الكبر والغرور الذي يؤدي إلى الهزيمة والخيبة , ويستعيذ الجاحظ بالله من الخذلان , ويصفه بأنه حالة من السقوط الروحي والمعنوي , حيث يبتلى الإنسان بالفقر الشديد أو كثرة العيال , جاعلاً إياه تركاً إلهياً للعبد الذي تقاعس , ولعل أصدق ما كُتب عن الخذلان يتجلى في قول جبران خليل جبران:  (( ولكنك ارتضيت لي الأذى , وأنا الذي كنت أحسبك أرقُّ على قلبي مني , فالخذلان بأن استثنيك من بين الجميع وأحارب بِك الدنيا فتحاربني أنت والدنيا معاً )) , لذا يوصي ناصحاً: (( لا تبالغوا في الحب , ولا تبالغوا في الاهتمام والاشتياق , فخلف كل مبالغة صفعة خذلان )) .

فيودور دوستويفسكي يتنهد بحزن ليقول : (( يا سادتي , لقد سرقوا مني كل شيء تقريبًا , ثم أعطيتهم ما تبقّى من تلقاء نفسي )) , هذا الشعور بالاستنزاف العاطفي هو ما يجعل الخذلان درساً عميقاً في الحياة , درساً يفهمه المحبون المخلصون , في زمن الحرب العالمية الثانية , وبينما كان الناس يموتون في غرف الغاز, كان هناك حب يولد بين جبهات القتال , حبٌ جمع بين المعتقل المنسي وحبيبته البعيدة , كان يناجي صورتها على هيئة غيمة , ويؤمن أن من يحبونه لا يمكنهم أبداً أن يخذلونه حتى في مجرد الشعور به , هذا هو المغزى : أن لا تخذل من ألقى في سلة روحك كل مشاعره وصدقه , دون أن ينتظر منك سوى الحب بجميع أشكاله , لا تخذلوا من يضعون ثقتهم بكم , فأنتم الأعلون الذين منحناهم أصدق المشاعر.

 يتجلى إبداع ليو تولستوي في طرحه السوداوي المعبّر: (( يا سيدي , إن من يخونوك كأنهم قطعوا ذراعيك , تستطيع مسامحتهم لكنك لا تستطيع معانقتهم  )) , فتأمل معي , الخذلان قد يأتيك من شخص, أو وطن , أو حتى من نفسك حين تتعلق بآمال وأحلام كان من العسير عليك ترويضها , لا يُوجَد أحَدْ مَضمُون فِي هذَه الدنيَّا , فحَتَّى قُلوبَنَا التِي هِي لَنَا سَتَخْذِلُنَا يَومَاً مَا وتَتَوَقفُ عِنْ النَبْض , وقمة الخذلان أن تسكنه عينيك , فيصب الرمد فيها ويذهب , أن تسكنه روحك فيحرقها بلهيب جحوده ويرحل , ولكي لا نسمح لِلخُذلان بِالتسرُب إلينا , علينا ألا نَرفع سقف توقعاتنا بأحد , فالحياة همست يوماً : لا تُعوِّل على الآخرين , ولا تَعقد خط آمالك على سبل السراب.

لقد تعمّق عرّاب الإلهام والفكر أحمد خالد توفيق في وصف سيكولوجية الخوف حين قال: (( كطفل هرول إلى أمّه ليحتضنها فتلقى صفعة ليكفّ عن البكاء , هكذا هو الخذلان  )) , ومن منا لم يتجرع مرارة الخِذلان؟ الكلّ قد أخذ نصيبهُ منه بنسب مُتفاوتة , إنّ الخِذلان في وقعِه على النّفس أقسى من أيّ شيء آخر, لأنه نابع من مدى محبتِنَا وثقَتنا بالطّرفِ الآخر, فكلّما كان الشّخص قريباً , كلّما كان الألم والخيبة أكبر, حين تأمل وترتجي منهم فيصفعونك بخيبة تلو الخيبة , يظهر لك زيفُ العلاقة , وترتطمُ أنت بواقع مرير كان صوب عينيك منذ البداية لكنّك كُنت غافلاً.

إننا نعيش اليوم الوجه القاتم لـ (( مكر التاريخ)) ,هذه الفكرة الهيغلية تؤكد طابعها المأساوي فوق أرضنا وفي زماننا هذا , حيث تنهض الشعوب للتضحية والاستشهاد , فتنصب في النهاية حكومات محافظة ومتخاذلة ضد نضالاتها , فتكون الحكومة المعوّل عليها هي الوبال الأكبر على الشعب , وتعمل كخادم مطيع للإملاءات التحكمية , والسباق نحو مراكمة المصالح الخاصة , وهنا يتجرع الجميع مرارة الخذلان , إلّا أنه خذلان يُقسّم على الطوائف والقوميّات بعد أن تحوّل قادتها إلى ما يُشبه مديري حكومة احتلال , ومرارة الخذلان مُرعبة إذا ما تمّ تجرّعها من دون أن يلحقها دواء شافٍ لها , فكلّ انفلات سيحصل اليوم أو غداً لا يتحمّل مسؤوليته المحتجّون , وإنما أولئك النهابون الذين تركوا ثُلث المجتمع تتعارك مصارينه بسبب الجوع , وتركوا العراقيين بلا حقوق تضمنها الشرائع كلها : الكرامة , والأمن , والغذاء , والسكن , والتعليم , والطبابة والخدمات.

أحدث المقالات

أحدث المقالات