الجرح الذي لم يُشفَ – من الألم إلى الامتياز الزائف

الجرح الذي لم يُشفَ – من الألم إلى الامتياز الزائف

وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. سورة إبراهيم: 45

الناس المجروحون خطيرون. فهم يعرفون أنهم قادرون على النجاة. جوزفين هارت

جرح يبحث عن خلاص

في لحظات القهر، يولد الأمل من رحم المعارضة. وجوهٌ منفية، أصواتٌ مقموعة، وشعاراتٌ تُرفع باسم الشعب والحق والسيادة. لكن حين يتحوّل المنفى إلى قصر، والنداء إلى سلطة، تنكشف الحقيقة: ليس كل من عانى صار أهلًا للعدل، وليس كل من نجا صار أهلًا للحكم.

بعد سقوط النظام في 2003، حملت المعارضة العراقية جراحًا عميقةً من الظلم والنفي والقمع. لكنها، بدل أن تكون هذه الجراح دافعًا للعدالة والبناء، تحوّلت إلى “رخصة مسبقة” للفساد والهيمنة.لم يُشفَ الجرح، بل تحوّل إلى سُلَّمٍ صعدت عليه نخبةٌ جديدة إلى السلطة، لتعيد إنتاج نفس النمط الذي حاربتْه يوماً.

هذه المفارقة ليست مجرد خيانة سياسية، بل أزمة حضارية. إنها لحظة انكشاف الجرح الذي لم يُشفَ، بل تحوّل إلى أداة للهيمنة، وإلى مبرر للفساد، وإلى قناع يُخفي الطغيان الجديد.

لقد دخلوا الحكم مثقلين بجراحهم، لكنهم لم يُعالجوها. بل جعلوها مبررًا لكل انحراف. كلما انتُقدوا، قالوا: نحن من عانى، نحن من ضُحي به، نحن من يستحق. وهكذا، تحوّل الجرح إلى شرعية زائفة، وإلى حصانة ضد المحاسبة، وإلى ذريعة لتكرار نفس الأخطاء التي أسقطت النظام السابق.

الجرح كشرعية مزيفة

في كتابي “عصر المماليك الثاني”، وصفتَ كيف استخدمت النخبة الحاكمة جراح الماضي كـ”بطاقة ائتمان سياسي”. كلما وُجِّه إليهم نقد، ردّوا:

نحن من عانى.. نحن من دفع الثمن.. نحن الأحق بالسلطة!”

بهذه العبارات، حوّلوا الجرح من ألمٍ يُرثى له إلى امتيازٍ يُبرر الانحراف. فالجرح لم يعد ذكرى أليمة، بل أصبح “هوية سياسية” تمنح الحصانة وتُسقط المسؤولية.

من الجرح إلى التبعية: عقدة الناجي

إن الجرح الذي لم يُعالَج يولّد خوفًا من العودة إلى الماضي. هذا الخوف حوّل كثيرًا من أبناء المعارضة إلى “ناجين خائفين”، يبحثون عن حماية خارجية بدل بناء سيادة وطنية. في “العراق إلى أين؟” أشرتَ إلى أن التبعية للخارج لم تكن خيارًا استراتيجيًا فحسب، بل كانت أيضًا “هروبًا نفسيًا” من مواجهة مسؤولية البناء الذاتي.

الجرح والمؤسسات: من الدولة إلى العصابة

وبدل أن تتحوّل التجربة الأليمة إلى حافزٍ لبناء مؤسسات قوية، تحوّلت إلى ذريعة لتفكيكها. فالفساد لم يُدان، لأنه – بحسب خطابهم – “تعويض عن سنوات المعاناة. والمحاصصة لم تُحارب، لأنها – في نظرهم – “ضمانة لتوزيع المغانم. بهذا، تحوّلت الدولة من فكرةٍ جامعة إلى “غنيمة جماعية”، يُقتسمها من عانوا سويًا!

هل يمكن للجرح أن يشفى؟

الجرح لن يشفى إذا ظلَّ أداةً للتمكين السياسي. الشفاء يبدأ حين نعترف بأن “المظلومية ليست شهادة أخلاقية دائمة. فالعراق لا يحتاج إلى قادةٍ يحملون جراح الماضي كشعار، بل إلى قادةٍ يتعاملون مع الجرح كـ”درس” وليس كـ”وسام.

إن الجيل الجديد يرفض أن يرث جراحًا لم يسببها، ويسأل بجرأة:لماذا تحوّل الألم الذي عانيتموه إلى ألمٍ تسببونه لنا؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات