فلسفة الإعلام وتقنية الرؤيا المعاصرة

فلسفة الإعلام وتقنية الرؤيا المعاصرة

لم يعد الإعلام مجرد وسيلة ناقلة للأخبار أو أداة للتأثير السياسي والثقافي، بل تحوّل في ظل الرؤيا المعاصرة والتقنية الحديثة إلى فضاء فلسفي واسع يعيد تشكيل الوعي الإنساني والمعنى ذاته. فالفلسفة هنا تنطلق من سؤال: هل الإعلام يعكس الواقع أم يصنعه؟ وهل الإنسان ما زال فاعلاً في العملية الإعلامية أم أصبح مجرد متلقٍ تتقاذفه الخوارزميات؟
في زمن الرقمنة والتقنيات الحديثة، الإعلام لم يعد خطاً أحادياً بين المرسل والمتلقي، بل شبكة معقّدة تتداخل فيها الذات بالآلة، والخبر بالصورة، والرأي بالبرمجة. الخوارزميات تلعب دور الوسيط غير المرئي، تحدد ما نراه وما نتجاهله، فتصوغ وعياً انتقائياً يظهر للمتلقي على أنه طبيعي، بينما هو في العمق نتاج برمجة وأهداف اقتصادية وسياسية. وهنا يبرز البعد الفلسفي: الإعلام لم يعد مجرد انعكاس للواقع، بل أصبح “واقعاً مضافاً” يشارك في تكوين الحقيقة ذاتها.
الرؤيا المعاصرة في الإعلام ترتبط بالتقنية بوصفها القوة المحركة لعصر ما بعد الحداثة. الصورة تختزل النص، والسرعة تتفوّق على العمق، والتفاعلية تزيح المركزية التقليدية للمؤسسات الإعلامية. المنصات الرقمية لم تعد مجرد أدوات، بل بيئات فكرية جديدة تُنتج قيماً وأنماطاً سلوكية وتصورات عن الذات والعالم. إنها فلسفة جديدة للوجود: “أنا أظهر، إذن أنا موجود”، في مقابل “أنا أفكر، إذن أنا موجود”.
من هنا يمكن القول إن فلسفة الإعلام في عصر التقنية هي فلسفة الحضور والغياب في آن واحد: حضور مكثف في العالم الافتراضي يقابله غياب متزايد عن العمق الإنساني المباشر. وهي أيضاً فلسفة القلق من فقدان المعنى أمام طغيان الكمّ والصورة والسرعة.
إن الرؤيا التقنية المعاصرة تضع الإعلام في مفترق طرق: إما أن يتحول إلى أداة استلاب شاملة، حيث الإنسان مجرد رقم ضمن بيانات ضخمة، وإما أن يُعاد توجيهه ليكون فضاءً للتحرر وإنتاج معرفة نقدية. وهنا تكمن الحاجة إلى وعي فلسفي يتجاوز الانبهار بالتقنيات ليطرح سؤال المعنى، ويوازن بين سلطة الآلة وحرية الإنسان، وبين تدفق المعلومة وقيمة الحقيقة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات