30 سبتمبر 2025 11:11 ص

ايام الزمن الاغبر / الحلقة السادسة / الفلافل بين حقيقة الجوع والعوز وذاكرة التزييف

ايام الزمن الاغبر / الحلقة السادسة / الفلافل بين حقيقة الجوع والعوز وذاكرة التزييف

تختلف عادات وتقاليد العراقيين اختلافاً جوهرياً عن بقية العرب ودول الجوار، حتى في تفاصيل الحياة اليومية المرتبطة بالغذاء والطعام… ؛ فالعراقيون، في تاريخهم القديم والمعاصر، لم يعرفوا طبق “الفلافل” – أو “الطعمية” كما يسميها المصريون – كجزء أصيل من مائدتهم الشعبية… ؛ ولم يكن جزءاً أصيلاً من وجبات العراقيين الشعبية بل لم يعرفه العراقيون قط … ؛ هذه الأكلة التي تُعدّ غذاء الفقراء في مصر والسودان وبلاد الشام؛ لم تجد طريقها إلى العراق إلا متأخراً … ؛ اذ أن انتشار هذا الطبق في العراق لم يكن ظاهرة ثقافية طبيعية بقدر ما كان انعكاساً لتحولات سياسية واقتصادية وثقافية جذرية… ؛ فقد تزامن دخوله وانتشاره الواسع مع حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي شهدت هجرة واسعة النطاق للعمالة العربية – تقدر بالملايين – ، بما فيها المصرية، إلى العراق. وقد جاءت هذه الهجرة في إطار سياسات الأنظمة الحاكمة آنذاك، التي تبنت خطاباً قومياً شمولياً يستهدف الهوية الوطنية والاغلبية والامة العراقية ، وسعت إلى توظيف هذه القوى العاملة في مشاريعها الفاشلة والعسكرية.

جاءت هذه الموجات البشرية – والتي تقدر بالملايين – في الوقت نفسه الذي كان النظام البعثي يزج بملايين العراقيين في أتون حروب عبثية ومعارك خاسرة، ويملأ السجون والمعتقلات بأبناء البلد الاصلاء ، ويفتح المقابر الجماعية لاحتضان ضحاياه الابرياء والعزل … ؛ وهكذا، بينما شهدت دول الخليج طفرة نفطية انعكست رخاءً على شعوبها، حيث طار مواطنوها للسفر والسياحة وتذوقوا ما لذ وطاب من الأطعمة العالمية … ؛ كان العراقيون يعانون الجوع والخوف ورعب السلطة الشمولية الدموية .

نعم كانت تلك السنوات مفارقة صارخة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي… ؛ فبينما قفز سعر برميل النفط إلى أكثر من 30 دولاراً في مطلع الثمانينيات، وارتفع دخل الفرد في السعودية والكويت إلى ما يزيد على 10 آلاف دولار سنوياً، حيث جاب مواطنو الخليج العالم سياحةً وتسوقاً وتذوقاً لأفخر الأطعمة كما اسلفنا ، كان دخل الفرد العراقي يتآكل تحت وطأة الحروب والحصار الداخلي غير المعلن ثم الحصار الدولي .

وفي الوقت الذي كانت فيه العائلات الخليجية تستورد أحدث السيارات والسلع الفاخرة، كان العراقيون يبيعون أثاث منازلهم ليشتروا الطعام… ؛ لم يكن الفارق اقتصادياً فحسب، بل نفسياً واجتماعياً أيضاً؛ إذ حوّل النظام الصدامي البعثي الهجين الجوع إلى أداة ضبط وسيطرة، وجعل الخوف والجوع وجهين لعملة واحدة.

هكذا تحوّلت وجبة الفلافل، التي لم تكن معروفاة في المائدة العراقية من قبل، إلى وجبة رئيسية بل وحتى “وجبة ضيافة” وجبة تقدم للضيوف العراقيين بدلاً من أن تكون طعام الفقراء والمعدمين … ؛ في مشهد يلخص حالة الإفقار والإذلال التي عاشها العراقيون. كان المواطن يقف في طوابير طويلة للحصول على الوقود والخبز، فيما كان الإعلام الرسمي يصدح بشعارات “المسيرة الظافرة” و” يا حوم اتبع لو جرينه , ويا محلى النصر بعون الله “، وكأن الجوع انتصار!

وبلغ سعر (السندويجة او اللفة ) الواحدة 500 دينار في زمن كان راتب المعلم العراقي لا يتجاوز 3000 دينار شهرياً – والذي كان يعدّ من الطبقة الوسطى المحترمة – ، أي ما يعادل ست لفات فلافل فقط… !!

هكذا تحوّلت وجبة او لفة الفلافل إلى رمز لزمن القحط، زمن كان فيه العراقي يزن رغيف الخبز قبل أن يأكله، ويحسب عدد اللقمات في فمه، بينما كان الإعلام البعثي يصدّح بشعارات “الأمة العربية الواحدة” و”النصر العظيم” ؛ والحكومة الصدامية الهجينة تقدم التبرعات للفلسطينيين وفقراء امريكا …!

إنها مفارقة موجعة تلخص حال مجتمع حُرم من أبسط مقومات العيش الكريم، وأجبر على تقبّل الجوع والإذلال كقدر يومي.

ومع كل هذا الألم، لا يزال هناك من يطلق على تلك الحقبة السوداء وصف “الزمن الجميل” أو “العهد الزاهر”، وهي تسميات تروج لها جوقات البعثيين وبقايا القومجية وشراذم الطائفية الذين يحنّون إلى حقبة القمع والاستبداد… ؛ لكن الذاكرة الجمعية للعراقيين تحتفظ بصورة مغايرة تماماً: زمن أغبر وشعب جائع، زمن مقابر جماعية، زمن كانت فيه وجبة الفلافل رمزاً للجوع لا للكرم، وللذل لا للرخاء… , والجوع والمعاناة عنواناً للحياة اليومية ؛ وكأن الفقر والجوع والخوف والعنف والهمجية والمقابر الجماعية يمكن أن تكون معياراً للجمال والازدهار!

نعم : مع كل هذا الخراب والجوع والموت المجاني، خرجت ولا تزال تخرج جوقات البعثيين والقومجيين وشراذم الطائفية وذيولهم من الدونية لتصف تلك السنوات العجاف بالعصر الذهبي والزمن الجميل! أي “زمن جميل” هذا الذي كان عنوانه الخوف والجوع، وشعاره الحرب والمقابر الجماعية، ورمزه (سندويجة ) لفة فلافل تقدَّم كوجبة كرم وضيافة؟

إن الذاكرة العراقية الحقيقية لا تنخدع بهذه الشعارات؛ فهي تحتفظ بمشهد الطوابير الطويلة أمام الأفران، وبأصوات القصف في ليالي الحرب , وبصوت صافرات الإنذار، وبصور الجنائز اليومية المحاطة بالأيتام والثكالى ، وبوجبة او لفة الفلافل التي صارت رمزاً للذل لا للكرم… ؛ ولهذا، فإن واجبنا أن نفضح كل محاولة لتزييف هذا التاريخ، وأن نذكّر الأجيال الجديدة أن “الزمن الجميل” لم يكن جميلاً إلا في خطابات الطغاة , وردح الغجر , وثرثرة جوقات المتملقين والدونية و(اللوكية ) … ؛ اذ لم يكن سوى زمن الجوع والدماء والدموع والآهات والحسرات .

إن الذاكرة العراقية الحية لا تنخدع بهذه الروايات المزيفة ؛ فهم يتذكرون الأجساد التي كانت تعود من الجبهات بلا رؤوس، ويتذكرون همس الأمهات خوفاً من آذان الجدران … ؛و التاريخ الحقيقي ليس ما تقوله الانظمة العميلة وجوقات المرتزقة، بل ما عاشه الناس في تفاصيل أيامهم، وما دفعوه من أثمان لحروب لم يختاروها.

فهذا النص ليس مجرد حنين للماضي ولا اجتراراً للجراح، بل هو محاولة لفضح ازدواجية الخطاب الذي يحاول تلميع حقبة سوداء على حساب وعي الأجيال الجديدة… ؛ فالتاريخ يجب أن يُقرأ كما هو، لا كما يروّجه الحاقدون والمنكوسون و المنتفعون والمستفيدون من بقاء الذاكرة مشوّشة.

إن إعادة قراءة تلك الحقبة ضرورة للأجيال الجديدة، كي لا تنخدع بخطاب التجميل المضلل، ولكي تدرك أن الطغيان لا يمكن أن يكون جميلاً، وأن ما سُمّي يوماً بـ”الزمن الجميل” لم يكن سوى زمن الجوع والدموع ولفة الفلافل التي حلت محل ( المفطح , وتشريب اللحم , وتمن العنبر والدولمة والتكة والكباب ) .

إن تسمية تلك الحقبة بـ “الزمن الجميل” من قبل بعض الأطراف السياسية المنكوسة والجماعات الضالة هي محاولة لتزوير التاريخ وتجميل وجه حقبة كانت من أكثر الفترات عتمةً في الذاكرة الجمعية للعراقيين…؛ فهي حقبة السنوات العجاف التي تم فيها تفقير الشعب وإخضاعه، تحت شعارات قومية وطائفية، لآلة قمع لم تُبْقِ ولم تذر.

نعم : إن واجب المثقف العراقي اليوم أن يكشف زيف دعاة الحنين لتلك المرحلة، وأن يفضح كل محاولة لتلميع عهد القمع والجوع، لأن التاريخ الحقيقي ليس ما تروجه السلطة أو حلفاؤها، بل ما عاشه الناس في تفاصيل حياتهم، وما دفعوه من أثمان باهظة لسياسات لم يختاروها كما اسلفنا .

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات