مهدي المعموري ضفاف الحرف ومرافئ الذاكرة

مهدي المعموري ضفاف الحرف ومرافئ الذاكرة

في إحدى زوايا العراق التي تفيض بعبق النخل ومواويل الفرات، أبصر النور مهدي حنون علي المعموري سنة 1950 في قضاء المسيب، تلك المدينة التي احتضنت طفولته وأزهرت فيها بذور الموهبة الأولى، قبل أن تمتد به الخطى إلى دروب الأدب والعلم في كلية الآداب – الجامعة المستنصرية، حيث تخرج من قسم اللغة العربية عام 1975، مستلهمًا من ضادها روحًا تفيض بالشعر والسرد، ومن مناهجها زادًا لغويًا وبلاغيًا وافرًا.

لم يكن المعموري مجرد تلميذ للغة، بل كان عاشقًا متبتلاً في محرابها، فمضى في رحلته التعليمية والتربوية معلماً ثم مديراً لإعدادية المسيب، محاطًا بجيل من الطلبة الذين نهلوا من علمه ودماثته، قبل أن تحيله السنون إلى التقاعد، تاركًا خلفه مسيرة مهنية متوَّجة بالوفاء للمهنة والقلم معًا.

في ميدان الأدب، كان لمهدي المعموري صوته الخاص. جمع بين وهج الشعر وصفاء القصة، فصدح صوته في ديوان ضفاف الروح عام 2005، وهو ديوان ينضح بهموم الإنسان وانفعالاته، ويعكس مزاجًا شعريًا متزنًا، يحمل بين أنفاسه وجع الوطن ودهشة الحياة.

أما في القصة، فقد جاءت مجموعته الهبوط إلى القمة الصادرة عن وزارة الثقافة والآثار، لتؤكد أن المعموري لا يكتب من فراغ، بل من معايشة دقيقة للتفاصيل، ومن رؤى تنفذ إلى عمق التناقضات الإنسانية. وقد التقط الناقد عباس محسن الجبوري هذه الخيوط المحكمة، حين أشار إلى أن “المعموري في سردياته لا يصنف الحروف، بل يشوي الكلمات برائحة البارود، حيث لا يوجد وقف لإطلاق النار إلا لتقليل الخسائر وتنظيم قوائم الأسماء”. وأضاف أن “الضمير هو الصوت الطاغي في مجموعته القصصية، وقد قلب المعموري المعادلة فجعل الأشخاص ثابتين والأماكن متحركة، وخلق بذلك دينامية سردية نادرة“.

لكن ما يميّز المعموري أكثر من سواه من أبناء جيله، هو انشغاله الحميم ببيئته المحلية، وإصراره على توثيقها كتابةً. فجاءت ثلاث من موسوعاته لتكون بمثابة الأرشيف الحي لقضاء المسيب: موسوعة أعلام المسيب بجزأيها (2013)، موسوعة عشائر المسيب بطبعتين، وموسوعة أدباء وكتّاب المسيب (2020). وفي هذه الأعمال، تتجلى شخصية الباحث الذي نبش في بطون الذاكرة المحلية، وجمع الشهادات والأنساب والتفاصيل، كما أشار إلى ذلك الباحث السيد سلمان هادي آل طعمة الذي أثنى على هذا الجهد التوثيقي، واعتبره “عملاً صعبًا يؤدي خدمة مثلى للأجيال القادمة، ويؤسس لمعرفة دقيقة بتاريخ العشائر وأعلامها“.

وفي السياق ذاته، كتب السيد أبو الحسن السروي النجفي عن كتاب عشائر المسيب قائلاً: “لقد أُوتي المؤلف الفهامة، فغاص في بحر هذا العلم المتشابك، وخرج بكتاب لا يعرف قيمته إلا من سكن هذه الأرض، أو حفظ صلاتها العميقة بتاريخ الناس والأنساب“.

ومن جانبه، أوضح الناقد توفيق المعموري أن فكرة موسوعة أعلام المسيب انطلقت من تفاعل أهل المدينة مع منشورات مهدي المعموري على وسائل التواصل، التي وثّقت وجوهًا منسية من المدينة، حتى باتت ضرورة أن تُضم تلك المنشورات في كتاب. وأكد أن المؤلف قد واجه اعتراضات وانتقادات ممن لم يفهموا طبيعة الموسوعة، غير أنه أصرّ على الوفاء للمدينة وأهلها، قائلاً في مقدمة عمله: “الموسوعة لا تقيس المنزلة الاجتماعية، بل تجمع المعارف عن الشخصيات كما هي، لتبقى شاهدة على زمنها“.

لم يكن أدب مهدي المعموري بمنأى عن أعين النقاد، فقد صدرت عنه دراسة بعنوان بواكير: كتاب نقد وتحليل في شعر توفيق المعموري، وهو دليل على موقعه الأدبي وأثره في المشهد المحلي، كما نال جوائز عدة من بينها الجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة لتربية بابل، وجائزة الإبداع من نقابة المعلمين، إلى جانب تكريمات من اتحاد المؤرخين واتحاد العشائر العراقية، في دلالة على تنوع الحقول التي أنجز فيها وأثرى بها.

ما يلفت النظر في تجربة المعموري هو حرصه على العمل الجماعي الثقافي، فكان عضوًا في اتحاد الأدباء والكتاب في بابل، وعضوًا في اتحاد الصحفيين، والمنتدى الأدبي، وتجمع البيان، ومنتدى الأكاديميين. كما أسس “الرصيف الثقافي السنوي” الذي جمع فعاليات ومؤسسات ثقافية في المسيب، ليؤكد أن الثقافة لا تكتمل إلا إذا عبرت من ضفاف الحبر إلى ضفاف الفعل.

ولا يزال مهدي المعموري ممسكًا بالقلم، إذ لديه أعمال قيد الطبع، منها ديوان الضفاف النائية، ومجموعة مقالات وبحوث بعنوان سطور بقلم الرصاص، وهي إشارة إلى استمرار حضوره وحرصه على إيصال صوته للقارئ العراقي والعربي، بصوت الحكيم الذي خبر الحياة، وعين الشاعر التي لا تزال ترى الجمال بين الركام.

مهدي المعموري ليس مجرد شاعر أو قاص، بل هو مزيج من المعلم والمؤرخ، من الشاهد والفاعل، من العاشق للأدب والوفيّ لمحلته وأهله. وإن كانت تجربته لم تنل بعد ما تستحقه من احتفاء نقدي وإعلامي واسع، فإنها تبقى من التجارب التي تضيء الهامش بنور المركز، وتعيد للمدن الصغيرة حقها في الخلود عبر الكلمة.

هو ذا المعموري: ضفاف لا تنضب، وروح تقطر بالحكايات

أحدث المقالات

أحدث المقالات