بَعد سُقوط جدار برلين عام1989، لم تعُد العَديد مِن دول الكتلة الشَرقية السوفييتية قادِرة على الصُمود، فتَساقَطَت أنظِمَتها الشيوعية الشُمولية واحِدة تلو الأخرى كقُطَع الدومينو. قد يَحدُث شَيء مُماثل الآن بالمَنطقة العَربية. فمِن المُمكن أن يؤدي سُقوط الأسَد إلى إنهيار النُظُم السياسية القائِمة في العراق ولبنان ورُبما اليَمن، ليسَ بالضَرورة كحُكومات، وإنما كتركيبة، تُمَثِّل إيران حاضِنَتَها الأم، كما كان الإتحاد السوفيتي الحاضِنة الأم لدول الكتلة الشَرقية.
“الهِلال الشيعي” مُصطلح أطلقه الملك الحَكيم الراحِل الحسين بن طلال، حين إستَشعَر قبل غَيره حَقيقة الأطماع التوَسّعية الإيرانية التي ترتَدي ثَوب الدين في المنطقة، وسَعيَها للسَيطرة عَليها عِبر غَسل عُقول شُعوبها وتَدجينها، مُستغِلة فِكرة التشَيّع لآل بيت النبي محمد، وتوظيف مَأساة حَفيده الإمام الحُسين لدَغدغة مَشاعِرهِم وتَأليبهم على بَعضِهِم، عِبر تَسويق نفسها كمُمَثِّلة وحامية للتَشَيّع، وتَصوير الآخرين كأعداء ونَواصِب لهُم. لتَحقيق ذلك سَعَت مُنذ عُقود لخَلق هِلال جُغرافي إفتراضي يَمتَد مِنلبنان الى اليَمَن، مُروراً بالعراق، وإفتِعال فَوضى في دُوَلِه لتَشكيل مليشيات مُرتزَقة بحُجّة الدِفاع عَن الشيعة، تُنَفِّذ أوامرها وأجندَاتها دون تفكير ولا نِقاش، وتعمَل بالتَوازي مَع حُكوماتها، كحِزب الله والحوثي، أو هي الحُكومة نفسَها، كالحَشد وحَماس ونظام الأسَد، كما كانت حُكومات دول المَنظومة الشَرقية العَميلة للإتِحاد السوفيتي.
طبعاً ما كان لهذا الهِلال أن يولَد أو يَرى النور، لولا جَهل وسَذاجة شَرائح واسِعة مِن مُجتمَعات هذه الدول، التي سَمَحَت لإيران بإستِغفالها وإستِغبائها، لتُصبح هي وسيلة وأداةً لتَحقيق هذا المَشروع، وأبنائها حَطباً لتنفيذ مَشاريعه. لذا فمَسؤولية ما أصاب هذه الدول مِن دَمار بسَبَب هذا المَشروع، لا تتحَمّله إيران وحدَها، فهي تسعى خلف مصالحها التي يَصدُف أنها تتَحَقق بتدمير هذه الدول. المَسؤولية الأكبر تقع على شُعوب هذه الدول، التي مَكّنَت إيران مِن أوطانها، مَرّة بإسم التشَيّع كما في لبنان والعراق واليمن، ومَرّة بإسم الإسلام كما في غزة، لأنها أساساً لا تَعتَبرها أوطان، ولم تَشعُر تجاهَها يوماً بالمواطنة، وَوَلائها الأول والأخير للدين والمَذهَب، ولا يُهمّها أن تعيش بكَرامة ورَفاهية كالبَشر الأسوياء، بقَدَر هَوَسَها بدخول الجَنة، إما للإستِمتاع بالحور العين، أو للقاء النبي وأهل البيت وتناول الغداء مَعَهم!
ولأن هذا الهِلال لم يولد بَين ليلة وضُحاها، بل إحتاجَت إيران لكثير مِن الوقت، وتَحَلّت بكَثير مِن الصَبر لخلقه، فلن تُفرّط به بسهولة رَغم أنه بدأ يَدخُل مَرحَلة المُحاق والتلاشي، لأنها كانت تطمَح أن يَتَحَوّل الى بَدر، إلا أن رؤية هذا الهِلال بدراً هي أحلام يقظة عَكس مَنطق العَقل والتأريخ! فالبَدر مُنير مُشِع، ومَشروعها ظلامي أشاع الجَهل والتخلف والطائفية في الدول التي إبتلعَها، فهي مُنهارة إقتصادياً وفاسِدة سياسياً ومُتخلفة مُجتمَعياًومُتطَرّفة دينياً، كحال دول العُصور الوسطى، بل أسوء. فالعراق مُنهكتَحكُمُه مَنظومة فاسِدة مُجرِمة، قوامُها مليشيات مُرتزقة وأحزاب طائفية تَنشُر الجَهل والإرهاب وتمتَهن الفَساد لنَهب ثرَواتِه وتَسخيرها لخِدمة المَشروع الإيراني، وتَسعى لِتَرك بُنيَتِه التَحتِيّة مُنهارة، لإبقاء وعيه الجَمعي مَسطولاً بهُموم الحياة ومُنتشِيّاً بأفيون العَقيدة. أما لبنان فسُلطَته كانتمُتواطِئة مَع مافيا حزب الله وفَساده وعَمالته لإيران، وتَسمَح بتهريب الأموال والأسلحة له عِبر سوريا بحُجّة المُقاومة، والذي وَرّط لبنان وشَعبه بمُغامرة حَرب2006 المُدمّرة بتوجيه من إيران! أما حَماس فكانت تَسرُق أموال المُساعدات الإنسانية لشِراء أسلحة وبناء أنفاق إختَبَئَت فيها كالجِرذان بعد حماقاتها التي أمُرتها بها إيران، كجريمة7 أكتوبر2023التي دَفَع شَعب غزة ثمَنها عَشرات آلاف الضَحايا مِن أبناءه.
بَعد أن فَر الأسَد فجأة إلى موسكو. وهو أمر ما كان يُمكن أن يَتحَقق بهذه السُرعة لولا ضُعف روسيا وإيران، اللتان كانتا تدعَمانه، وساعَدَتاه في الحِفاظ على مَنصِبِه الذي كاد يفقده قبل عَشر سَنوات، لا يَزال مُستقبل سوريا غير واضِح، فحَتى الآن لم يَتمَكن الحُكام الجُدد مِن فَرض سَيطرتهم على كل سوريا، بدليل أحداث الساحِل الدَمَوية مَع العَلويينوفي السويداء مَع الدروز، التي تنأى الحُكومة بنفسِها عَنها، رَغم أن مَن يَقوم بها هُم أتباعُها. لذا تغيير سوريا، رَغم سِلميته وسَلاسَته، لا يُشَجِّع على إتِّباعه، فمَن قامت به قوى مُسَلّحة ذات تأريخ مُتطَرّف،بَعضَها كان حَتى الأمس، وبَعضَها لا يَزال، مُصَنّفاً بقَوائم الإرهاب. والحكومة التي تمَخّضَت عَن التغيير مُلتحِية بطريقة سَلَفية، لا أحد يَعلم توجّهاتها الفعلية، وهل سَتتطابَق مَع ما أعلنوه مِن الإبتِعاد عَن السياسية، وحَصر السِلاح بيَد الدَولة عِبر حَل المليشيات وتسليم أسلحَتها الى الجَيش، ونقل السُلطة الى حُكومة ينتَخبَها الشَعب. لكن سَننتظر لنَحكُم على الأفعال لا الأقوال، والتي سَتكشِفها الأيام القادمة.
إن نَجاح التغيير في سوريا أصبَح مُمكناً في المَقام الأول، بعَكس ما كان مُتوقعاً له مِن قِبل إيران وحُلفائِها وأذرُعَها، أولاً نتيجة حَرب أوكرانيا التي شَغَلت بوتين عَن دَعم حلفائه، وحَرب غزة التي أنهَكَت حزب الله وحَماس. ضُعف هؤلاء مَنَعَهُم مِن الدِفاع عَن الأسَد. لكننا لا نَعلم كيف سَتَنتَهي حَرب أوكرانيا ولِصالح مَن! كما أن التغيير في سوريا مايَزال قَلِقاً، بعَكس التغيير الدراماتيكي الذي حَدَث للكُتلة السوفيتية بعد سُقوط جِدار برلين، لذا قد تلجأ إيران لزَعزعة إستقرار سوريا، كما فَعَلت في لبنان بالثمانينيات، وفي العِراق بَعد2003، في حال وَجَدَت أنها خَسِرت سوريا كقاعِدة أساسية لها في المَنطقة.
رَغم ذلك، ليس مُستحيلاً بأن يَكون تأثير ما حَدَث في سوريا على مُحيطه، هو نفس تأثير ما حَدَث بَعد سُقوط جدار برلين على دول المَنظومة السوفيتية، لكن أن تكون نتائِجه مُشابهة هو أمر بَعيد المَنال لعِدة أسباب جغرافية وتأريخية وإقتصادية وإجتماعية، والأخيرة هي التي تُهمّنا هنا لأن تركيبة مُجتمعاتنا غَير تركيبة مُجتمَعات دول أوروبا، حَتى الشَرقية مِنها، التي رَغم أنها تأخّرت عِلماً وإقتِصاداً وَوَعياً عَن قريناتها بأوروبا الغربية، إلا أنها كانت تمتلك مِن مَخزون الوَعي والبُنية الصِناعية ما مَكّنها مِن تحرير أوطانها وإعادة بنائها، وهو أمر تفتقده أغلب شُعوب مَنطقتنا.