رواية “البرية الجديدة”.. ديان كوك

رواية “البرية الجديدة”.. ديان كوك

في”البرية الجديدة” The New Wilderness، التي بلغت القائمة القصيرة لجائزة بوكر لعام 2020، وهي رواية ديستوبية من تأليف الروائية الأميركية ديان كوك، ندخل عالما تستعيد فيه الطبيعة حقوقها، حيث يواجه الناجون من عالمٍ يخنقه التحضر والتلوث وحشيةً بدائيةً وحاجةً لإعادة تعريف إنسانيتهم. تنضم بيا وابنتها أغنيس، المصابتان بمرضٍ خطيرٍ في المدينة، إلى مشروعٍ تجريبيٍّ مع ثمانية عشر مشاركا في آخر مساحةٍ طبيعيةٍ محمية. يراقب الباحثون هذه المجموعة لتوثيق كيف يمكن للبشر العيش بشكلٍ مستدامٍ في طبيعةٍ جامحة، بعيدا عن وسائل الراحة الحديثة. لكن الحياة في هذه البيئة العدائية بعيدةٌ كل البعد عن المثالية. الموارد شحيحة، وكل يومٍ هو صراعٌ من أجل البقاء. يجب على بيا مواجهة خياراتٍ مؤلمةٍ لحماية ابنتها، بينما تُواجِه مسؤولياتها كأمٍّ وهويتها الخاصة. من خلال تجاربهما، تستكشف ديان كوك حدود الحب والولاء، وقبل كل شيء، القدرة على التكيف.
تسلّط رواية “البرية الجديدة” الضوء على عالمٍ استنفدت فيه الحضارة مواردها، مُحوّلةً المناطق الحضرية إلى بيئاتٍ سامة. في هذا السياق، تُقدّم آخر مساحة طبيعية محمية على أنها الملاذ الأخير، ولكن أيضا كتذكيرٍ قاسٍ بقوانين الطبيعة. إن الصورة المثالية للعيش في قلب الطبيعة، كبشرٍ أوائل، تتبدد بسرعةٍ نسبية، إذ تُصبح الحياة اليومية شاقة والبيئة قاسية. سرعان ما تفقد الرؤية الرومانسية للحياة في الهواء الطلق بريقها، لأن الطبيعة ليست رحيمةً ولا متسامحة. يجب كسب الطعام والشراب، ومواجهة البرد والحرّ صراعٌ دائم، وحماية النفس من الحيوانات البرية صراعٌ لا هوادة فيه. بعدما كان الجميع يؤمنون بفكرة التوحد مع العناصر، سرعان ما يدركون أنهم بدلا من الانسجام، يواجهون عداء متزايدا.
لا بد من القول إن سكان المدن هؤلاء، المعتادين على الحياة الحضرية، كانوا منعزلين تماما في الماضي عن الحياة البرية. فبدلا من أن يكونوا أقوياء، يصبحون هشين عند مواجهة ظروف طبيعية خارجة عن السيطرة.
في آخر مساحة طبيعية محمية، تُحكم حياة هذه الجماعة البشرية بقواعد صارمة ورقابة مستمرة، مما يجعل وجودها مُنظّما بقدر ما هو مُريب. ورغم انغماسهم في الطبيعة، لا يعيش هؤلاء الأفراد بحرية تامة. تتخلل أيامهم ضرورات البقاء في بيئة مُعادية، بالإضافة إلى الخضوع لدليل إرشادي ومراقبة مُستمرة من قِبَل حراس الغابات.
الدليل الإرشادي، المُفروض كشرطٍ للتجربة، هو دليلٌ للبقاء وأداةٌ للهيمنة في آنٍ واحد. إنه يُملي على المشاركين كل جانبٍ من جوانب الحياة اليومية، من إدارة الموارد إلى كيفية التنقل وإدارة نفاياتهم. تعكس هذه الوثيقة مفارقةً ساخرة: فبينما يُفترض أن تعود المجموعة إلى حياةٍ بدائية في الطبيعة، فإنها عالقةٌ في نظامٍ صارمٍ وبيروقراطي. يفرض الدليل الإرشادي عليهم سلوكياتٍ دقيقةً لتقليل تأثيرهم على النظام البيئي، مما يزيد من صعوبة تكيفهم. ومن الواضح أن هذا التصلب يُولّد توترا مستمرا. يتأرجح المشاركون بين غريزة البقاء واحترام القواعد، وغالبا ما يكون هذان الأخيران متعارضين.
يُجسّد الحراس في الرواية دور المراقبة والتحكم. فهم مراقبون علميون وحُرّاس للنظام، يلعبون دورا مُبهما في حياة المجموعة. وجودهم، وإن كان مُتقطّعا، يُثقل كاهل المجموعة التي تخشى أحكامهم وعقوباتهم. الحراس مسؤولون عن تطبيق قواعد الدليل الإرشادي وضمان عدم تعريض المجموعة سلامة النظام البيئي للخطر. يتدخلون، على سبيل المثال لوزن النفايات المُتراكمة لدى المجموعة أثناء توقفها في محطات التتابع، ومعاقبة المُخالفين بغرامات أو تحذيرات، أو في الحالات القصوى، بالطرد.
من الحقائق المثيرة للاهتمام – والنادرة في عصرنا – الموجودة في رواية “البرية الجديدة”، أن البقاء على قيد الحياة هو قبل كل شيء مسعى جماعي. البحث عن الطعام، وحفظه، والسفر – بما في ذلك كل محطة مُخطط لها بعناية لتجنب استنزاف الموارد المحلية – هي مساعٍ جماعية وتعاونية. وهكذا، كما في الحياة الواقعية، تُصبح كل هذه العناصر مصادر محتملة للصراع. أضف إلى ذلك، الجوع والتعب والعناصر الهائجة، لتحصل على مزيج مُتفجر. في قلب هذا النظام، تُحافظ ديان كوك على توتر شديد من القمع: يطمح أعضاء المجموعة إلى حياة مُنسجمة مع الطبيعة، لكنهم يجدون أنفسهم مُحاصرين بنظام يُعيد إنتاج ديناميكيات السيطرة.
إلى جانب البقاء على قيد الحياة، تركز رواية “البرية الجديدة” أيضا على علاقة الأم وابنتها (بيا وآغنيس). يُعد قرار بيا بأخذ ابنتها إلى هذه البيئة القاسية، وإن كانت مُنقذة للحياة، فعلا يائسا دافعه الحب، وعبئا نفسيا في آن واحد. تستكشف الرواية الشعور بالذنب والشك، والتواصل بجميع أشكاله. ليست الأمومة مثالية؛ فبيا مُمزقة بين غريزة الحماية ورغبتها في أن تكون أكثر من مجرد ركيزة للتضحية. تتنقل آغنيس بين إعجابها بوالدتها وسعيها نحو الاستقلال المبكر، الذي صقلته متطلبات بيئتهما القاسية. وهكذا، تكشف ديان كوك بحساسية عن ثغرات، بل وعن قوة علاقة تتطور في توازن هش بين التبعية والانفصال، والتضحية والبقاء.
تُفكك رواية “البرية الجديدة” المثالية الرومانسية للطبيعة لتكشف عن قسوتها ولامبالاتها. بخلاف أعمال “كتابة الطبيعة” Nature writing، التي غالبا ما تحتفي بجمال وعظمة البرية، تُقدم الكاتبة طبيعةً فظة، عدائية، وعنيدة. تُصوّر المناظر الطبيعية كمساحات خطرة، حيث كل خطوة قد تكون قاتلة. يُوصف الغطاء النباتي بواقعية صارخة، ليس كملجأ، بل كقوة حاضرة في كل مكان، تبتلع الضعفاء وتختبر قدرات الناجين. تبحث الحيوانات المفترسة دائما عن فريستها التالية. برفضها كل أشكال المثالية، تُرسخ ديان كوك قصتها في واقع يكون فيه البشر مجرد دخلاء هشّين، عاجزين عن السيطرة على نظام بيئي دمّروه طويلا، أو حتى التعايش معه.
بعد كل هذا، قد تظنون أنني راض تماما عن هذه الرواية. ولكن ليست هذه هي الحقيقة. لا بد لي من القول إن رواية “البرية الجديدة” رغم كونها ذات طابع جذاب، إلا أنها تحتوي على الكثير من الأحداث المتكررة والمنعطفات المتوقعة ولحظات لا تنتهي من التأمل وتكرار في أحداث البقاء. على الرغم من تناغم الكثير مما جاء في النص مع السياق الحالي للأزمة البيئية وتساؤلاته حول أسلوب الحياة الحديث، إلا أنني شعرتُ بالملل أيضا. ونحن نتفق على أن الملل لا مكان له في الأدب. وأخيرا، ذكرتني هذه الرواية بما تدعونا إليه روايات أخرى، مثل رواية “من سيعيش بعدنا” لهيرفي لو كوري، ورواية “عفا عليه الزمن” لسوفي لوبيير: المزيد من الحذر والتأمل في واقع لم يعد فيه الانهيار البيئي مجرد فرضية، بل حالة من حالات الحياة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات