لماذا نحتاج إلى نقد الدين السياسي؟

لماذا نحتاج إلى نقد الدين السياسي؟

أ‌. لحماية الدين من التسييس

أول ما يكسبه الدين السياسي هو خسارة الدين ذاته. حين يتحول الدين إلى خطاب رسمي للدولة، فإنه يُجرّد من طاقته الروحية، ويُختزل في نصوص تبريرية تُستخدم عند الحاجة، ويُحوَّل إلى شعارات تُرفع لا إلى قيم تُعاش. وهكذا، يصبح الدين نسخة باهتة من ذاته، أشبه بظلّ باهت لفكرة عظيمة.

النقد هنا ضرورة، لأنه الوسيلة الوحيدة لوقف هذا التشويه. فالدين لا يُصان بالتحصين من النقد، بل يُصان بأن يُحرَّر من الاستخدام النفعي الذي يحوله إلى مجرد أداة.

ب‌. لحماية المجتمع من الاستبداد

الدين السياسي لا يكتفي بتشويه الدين، بل يمدّ أنيابه إلى المجتمع. حين يُقال للناس إن الحاكم يحكم “باسم الله”، تُغلق أبواب المحاسبة. وحين يُقال إن الاعتراض على الدولة هو اعتراض على “الإسلام”، يُصبح أي نقد خيانة، وأي إصلاح فتنة. بذلك، يصبح الدين السياسي درعًا للاستبداد: يحميه من النقد، ويمنحه قداسة كاذبة. ولذلك، فإن نقد الدين السياسي واجب اجتماعي، لأنه يحرر المجتمع من الخوف، ويفتح المجال للمساءلة، ويعيد السياسة إلى طبيعتها: مجال بشري خاضع للنقد والتغيير.

ج. لكسر احتكار الحقيقة

أخطر ما يفعله الدين السياسي أنه يختزل الحقيقة في خطاب رسمي واحد، يصبح الإمام الرسمي أو المرجع المقرّب من الدولة هو “المتكلم باسم الله”، يُقصى أي اجتهاد حر بدعوى أنه “خارج عن الجماعة”، يُسخَّر التراث ليكون ملكًا حصريًا للسلطة.

لكن الدين، في جوهره، خطاب مفتوح للتأويل، متعدد الأبعاد. وتاريخه يشهد على جدل واسع وتنوع في الفقه والكلام والتصوف والفلسفة. نقد الدين السياسي هو إذن نقد لادعاء احتكار الحقيقة، وفتح الباب لعودة التعددية التي هي روح الحياة الفكرية والدينية.

د. لفتح المجال للإصلاح

الإصلاح الديني والفكري لا يمكن أن ينمو في بيئة يهيمن عليها الدين السياسي، أي محاولة لإعادة قراءة النصوص تُتهم بالزندقة، أي اجتهاد يُعتبر تهديدًا للأمن القومي، أي فكر نقدي يُقدَّم كخيانة أو مؤامرة. النقد هنا لا يكون مجرد ترف فكري، بل هو شرط لتحرير المجال الإصلاحي من القيود. إذ لا يمكن لمجتمع أن يُجدد دينه ما دام محكومًا بخطاب سلطوي يدّعي أنه “التفسير الوحيد”.

هـ. لأن الدين السياسي يتناقض مع روح الإيمان

الإيمان فعل حر. وإذا سُلبت الحرية، سقط الإيمان وصار مجرد طقس آلي. الدين السياسي يُفرغ الدين من محتواه الروحي لأنه يربطه بالإكراه، بينما النصوص المؤسسة تؤكد أن الإيمان لا يفرض بالقوة: “لا إكراه في الدين”.

النقد إذن ليس مجرد معركة ضد سلطة سياسية، بل هو دفاع عن حقيقة الإيمان ذاته، فالدين الذي يُفرض بمرسوم ليس دينًا، بل أيديولوجيا سياسية مغلفة بعباءة الدين.

و. من أجل المستقبل

المجتمعات التي لا تجرؤ على نقد الدين السياسي تبقى أسيرة دورات متكررة من الاستبداد: يتقدم الحاكم باسم الدين، وتُقمع الحريات باسم الدين، وتنهار الثقة بين الناس والدين نفسه، ثم تنفجر المجتمعات في صراعات دامية بين دعاة التدين ودعاة التحرر.

نقد الدين السياسي هو استثمار في المستقبل، لأنه يمهّد الطريق لتوازن جديد: دين حرّ من السلطة، وسياسة بلا قداسة زائفة.

ي. خلاصة

إن الحاجة إلى نقد الدين السياسي ليست مطلبًا نخبويًا أو قضية أكاديمية، بل هي مسألة وجودية تمسّ صميم الدين والمجتمع معًا. هو دفاع عن الدين من التشويه، ودفاع عن المجتمع من الاستبداد، ودفاع عن العقل من المصادرة، ودفاع عن المستقبل من التكرار المأساوي.

بكلمة: إن نقد الدين السياسي ليس رفضًا للدين، بل إنقاذًا له، وإعادته إلى مكانه الطبيعي: مجال الضمير، لا أداة السلطة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات