شهدت لحظة سقوط الطاغية في 2003، تلاحما بين الجمهور الشيعي والعملية السياسية. فرحٌ مشوب بالأمل، وشعورٌ باستعادة الكرامة بعد عقود من القمع. لكن هذا التلاحم لم يكن مرغوبًا لدى أعداء الشيعة، فبدأت عملية هندسية دقيقة لإعادة تشكيل العقل الشيعي، جوهرها الإعلام، وأحد مفرداتها الدم، وهدفها زعزعة ثقة الشيعة بأنفسهم ورموزهم.
بدأت أولى الخطوات بإرسال آلاف الانتحاريين إلى الأسواق والمناطق السكنية الشيعية، لا لشيء سوى كسر الروح الجماعية وزرع الرعب في قلوب الشيعة بدلا من الفرح الذي اظهروه بسقوط صدام الحاكم السني .
ومع كل تفجير، كانت القنوات تُعيد السؤال ذاته على لسان محللين مرتبطين بمشروع غسل الأدمغة: “أين الحكومة؟ أين المالكي؟ أين وزير الداخلية؟” لكن هذه الأسئلة كانت تُطرح بعيدًا عن جوهر الجريمة.
لم يُسأل عن هوية الانتحاري، ولا عن جنسيته، ولا عن دوافعه، ولا عن انسجام فعله مع الدين والأخلاق. الهدف لم يكن كشف الحقيقة، بل تحميل الشيعة مسؤولية الجريمة، وتحويل الغضب من القاتل السني الى ضحاياه.
على ذات المنوال تم النيل من المرجعية الدينية العليا لأنهادعت للانتخابات ودعمت القائمة الشيعية في 2005 فشنّت عليها حملة إعلامية شرسة. صحيفة الشرق الأوسطالسعودية نشرت وقتها بالمانشيت العريض: “قشمرتنهالمرجعية وانتخبنه السرسرية”.
كان العنوان محاولة لهدم القداسة الرمزية للمرجعية، خصوصًا في نفوس الشباب، وتحويلها من مرجعية روحية إلى جهة سياسية قابلة للطعن والتشكيك.
ومع تصاعد حملة غسل الادمغة، بدأت قنوات محلية معروفة بعدائها للشيعة تسلط الضوء على كل سلبية تقع في المناطق الشيعية، وتنفخ فيها، وتصورها ككارثة وطنية، بينما تتجاهل نفس الحوادث في المناطق الأخرى.
مثلا، حادثة قتل زوجه، زوجها، نزاع عشائري، وغير ذلك، ويتم عرض الاخبار بطريقة تهين الجنوب وتطعن بشرفه، رغم أن أهل الجنوب أهل نخوة وكرم، لا يتقاتلون على تفاهات.
مثال آخر عن عملية غسل الادمغة التي تنتهجها الاطراف المعروفة، ما أثير حول الحشد الشعبي، فبينما كان الحشد الشعبي يحرر مناطق أهل السنة، ظهرت قنوات تتهمه بسرقة ثلاجة!
داعش دمّر البيوت وقتل الأبرياء واعتدى على الأعراض، لكن الإعلام تجاهل ذلك، وركّز على قصة مفبركة لتشويه من يدافع عن الوطن، في محاولة لتقويض رمزية الحشد في الوعي الشيعي.
هل تتذكرون تصريح مشعان الجبوري، المثير حين قال علنًا: “أنا احتسي الخمر، وكل من بالعملية السياسية لصوص، المعمم والأفندي”؟
فرغم أنه اساء لنفسه، إلا أن هدفه كان واضحًا: زرع الشك في نفوس الشيعة تجاه ممثليهم، المعممين وغير المعممين، والغريب أنه يُرفع على الأكتاف في مناطقه، ويُرجم السياسي الشيعي بناء على تصريح مشعان دون تحقق أو إنصاف.
هذه الاساليب تهدف إلى تحقيق ثلاث نتائج خطيرة: أولًا، جعل الشيعي في حالة غضب دائم، لا يفرح بإنجاز، ولا يثق بكلمة حق، بل يستجيب فقط لمن يعزز غضبه ويغذيه بمزيد من الأخبار التي ترجم الشيعة وترجمه نفسه.
ثانيًا، تهديم المرجعيات الدينية والسياسية في ذهنه، لتصبح وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي هي القائد الجديد، يصدق كل ما يُقال فيها دون تحقق، ما دام ينسجم مع حالته النفسية.
وثالثًا، زعزعة ثقته بنفسه، حتى يقتنع أنه لا يصلح لشيء سوى اللطم، ويُعاد إنتاج المقولة الخبيثة كل مرة: “السني للحكم والشيعي للطم”، رغم أن الشيعي هو من قدّم أفضل ما لديه لحكم العراق في ظل تحديات وضغوط هائلة.
أمام هذه الخارطة المدروسة، لا خيار للشيعي سوى أن يهدأ، أن لا يصدق كل ما يُقال، أن يتمسك بمرجعيته وممثليه، أن يراجع كل خبر وكل تحليل، وأن يتذكر أن من يريد له أن يشك ويغضب ويجلد ذاته، لا يريد له الخير. النجف الاشرف هي البوصلة، لا شاشات السموم.