تُعد ظاهرة إسقاط القدوات ذات خصوصية عميقة في السياق العراقي، حيث تتداخل العوامل النفسية والاجتماعية مع الأبعاد السياسية والدينية، مما يجعل صراع الأنا والآخر أكثر حدة. في ظل تاريخ العراق الحديث الذي شهد تعاقب أنظمة سياسية وفكرية، يمكننا أن نرى بوضوح ثلاث مراحل أو تحولات ، ومنها المرحلة الأولى ، التقديس الأعمى (الأنا يذوب في الآخر) لطالما اعتمدت الأنظمة السياسية في العراق على بناء قدوات رمزية، سواء كانت قادة سياسيين أو شخصيات أخرى .
في هذه المرحلة، كان يتم تقديس هذه الشخصيات بشكل كامل، ويُعتبر النقد الموجه لها خطًا أحمر. هذا التقديس كان يخدم هدفين رئيسيين وهما بناء هوية جماعية ، كان الفرد يجد هويته في الانتماء إلى هذا الرمز أو ذلك القائد، مما يقلل من الصراعات الداخلية ويعزز الانتماء للمجموعة. والهدف الآخر هو السيطرة السياسية ، كان التقديس وسيلة للأنظمة للسيطرة على الأفراد وتوجيههم، حيث يُصبح الفرد تابعًا للقدوة، لا مفكرًا ناقدًا. ومن منظور علم النفس الاجتماعي، كان هذا التقديس يعكس نظرية الهوية الاجتماعية في أقصى صورها، حيث تُصبح هوية الفرد جزءًا لا يتجزأ من هوية الجماعة التي يمثلها القدوة، ويُصبح أي انتقاد للقدوة هو انتقاد للذات.، والمرحلة الثانية ، الصدمة الادراكية والإسقاط (صراع الأنا والآخر).
بعد عام 2003، ومع انهيار الأنظمة السابقة ، وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تعرضت هذه القدوات لعملية إسقاط عنيفة. ما كان مخبأ من أخطاء وعيوب ظهر للعلن، مما أحدث صدمة نفسية كبيرة لدى الأفراد الذين بنوا هويتهم على هذه الرموز. هذا الصراع بين الصورة المثالية التي في أذهان الناس، والواقع الذي كُشف، أدى إلى خيبة أمل سياسية، بعدما كان القادة السياسيون يُقدمون على أنهم منقذون، ظهرت أخطاؤهم في إدارة الدولة، مما أحدث فراغًا في القيادة والثقة. أضف إلى ذلك لا بد الإشارة ما حصل من تفكك مجتمعي ، انهار فيها مفهوم ( القدوة الموحدة ) التي كان يلتف حولها المجتمع، مما أدى إلى انقسامات حادة وصراعات مجتمعية .
من منظور نظرية التنافر المعرفي، يمكننا أن نرى كيف عاش العراقيون حالة من التناقض بين ما آمنوا به وما اكتشفوه، مما دفعهم إلى هدم الرموز بشكل كامل، ليس فقط كأفراد، بل كجماعات تتصارع فيما بينها على إعادة تعريف القدوة. وهذا ما تجلى في المرحلة الثالثة ، النضج وتقدير المنجزات (التوازن بين الأنا والآخر) في الوقت الحاضر، يحاول المجتمع العراقي ببطء الانتقال إلى مرحلة أكثر نضجًا. بدأ الشباب في البحث عن قدوات جديدة لا تنتمي بالضرورة إلى الأحزاب أو الطوائف، بل إلى المنجزات الفردية. نجد الآن نماذج شبابية رائدة في مجال التكنولوجيا، أو الفن، أو العمل الإنساني، تُقدم كقدوات لأنها أحدثت تغييرًا ملموسًا على الأرض، بغض النظر عن انتمائها السياسي أو الاجتماعي. هذا التحول، وإن كان بطيئًا، يمثل بداية لمصالحة بين الأنا و الآخر.
الشباب العراقيون لا يريدون قادة مثاليين، بل يريدون أناسًا واقعيين، يخطئون ويتعلمون، لكنهم في النهاية يتركون بصمة إيجابية في مجتمعهم. وهذا الواقع يتناغم مع النظرية السوسيولوجية في التقديس الاعمى و نظرية التنافر المعرفي وهدم الرموز وصولا إلى النضج وتقدير المنجزات في بناء المجتمع .