لم تكن الوظيفة يوماً من الأيام خطيئة، لكنها ليست حلماً أيضاً، فهي حلّ الضرورة، لا غاية الطموح.
وإن أردنا لمجتمعنا أن ينهض، فعلينا أن نعيد ترتيب الأولويات، ونُشيع الوعي بأن الوظيفة ليست الخيار الأمثل، بل الخيار الأخير.
فالوظيفة، براتبها الثابت، تُغري بالاتكال، وتُطفئ جذوة الطموح، وتُعلّم النفس أن تكتفي بالقليل، وتخشى المجازفة.
وهذا الاتكال لا يقتل الإبداع فحسب، بل يضرّ بالوعي، ويشوّه أسلوب العيش، ويجعل الإنسان يدور في فلكٍ لا يملك تغييره.
ثم إن الوظيفة تقوم على طرفٍ آخر، صاحب عملٍ قد يُغيّبك في لحظة، خاصة في القطاع الخاص، حيث الأمان هشّ، والمستقبل معلّق بخيوط لا تملكها.
وفي الوظيفة، لا يملك الموظف قراره، ولا مستقبله.
فشراء منزل، أو تعليم الأبناء، أو حتى السفر، قد يصبح حلماً مؤجلاً، لأن الدخل محدود، والقرار ليس بيده.
الترقيات بطيئة، والدخل ينمو ببطء لا يُجاري التضخم، ولا يُواكب تكاليف الحياة.
وحين يأتي التقاعد، ينقص المرتب، ويبدأ العدّ التنازلي للراحة التي لم تأتِ.
ثم إن الوظيفة تُكرّر نفسها
نفس المكتب، نفس المهام، نفس الوجوه، حتى يُصاب الموظف بالسأم، ويذبل فيه الإبداع، ويخفت فيه الحلم.
والأخطر من ذلك، أن الموظف غالباً ما يكون محدود التأثير، لأن أدوات التغيير ليست في يده، وهمّه الأكبر أن يحافظ على وظيفته، لا أن يُغيّر مجتمعه.
لهذا، فإن الوظيفة لا ينبغي أن تكون الخيار الأول، بل أن تُترك لما لا بدّ منه.
أما الخيار الأول، فيجب أن يكون مشروعاً، أو فكرةً، أو رسالةً، أو سعياً نحو استقلالٍ حقيقي، يُعيد للإنسان قراره، ويمنحه أثراً، ويُحيي فيه روح الريادة.