في اليسار العراقي.. مجرد رأي

في اليسار العراقي.. مجرد رأي

منذ أن انفتح العراق على رياح القرن العشرين وأطلَّ على تحولات العلم الحديثة، كان اليسار العراقي، بأحزابه ونقاباته وحركاته الطلابية ومثقفيه، وفي طليعتهم الحزب الشيوعي العراقي، أحد أعمدة الحلم بالتغيير. فمنذ تأسيس الحزب في 31 آذار 1934، وجد نفسه في قلب الحركة الوطنية: من معارك الاستقلال في الأربعينات والخمسينات، إلى انتفاضات الطلبة والعمال، وصولاً إلى المشاركة في الحركات الاحتجاجية بعد 2003.
قاد شخصيات مثل فهد (يوسف سلمان يوسف) ورفاقه حملات توعية وتنظيم في الأحياء الشعبية والموانئ والمصانع، حاثّين العمال والفلاحين على المطالبة بحقوقهم، ورافعين لواء العدالة الاجتماعية في بلد كان يتأرجح بين الاستبداد والاستعمار. لم تكن تلك الشخصيات مجرد أسماء سياسية، بل أيقونات للعمل التنظيمي في الأزقة الشعبية، وبين العمال والفلاحين، حيث كانوا يوزعون المنشورات سراً، ويعقدون الاجتماعات في البيوت والمقاهي، ويخوضون نقاشات فكرية حول العدالة والمساواة في مجتمع يرزح بين سلطة الإقطاع والاحتلال.
في خمسينات القرن الماضي، حمل الحزب الشيوعي العراقي، وهو أكبر تنظيم سياسي جماهيري في البلاد آنذاك، لواء العدالة الاجتماعية، ووصل عدد أنصاره في بعض التقديرات إلى مئات الآلاف. واجه استبداد الحكومات المتعاقبة، ودفع في سبيل ذلك أثماناً باهظة من السجون والمنافي والمشانق والاعدامات. وكان منذ ثلاثينات القرن العشرين، حاضراً في كل منعطف وطني: من تنظيم الإضرابات العمالية في موانئ البصرة، إلى قيادة حركة الطلبة في بغداد والموصل، ومن مواجهة الاحتلال البريطاني والمطالبة بالاستقلال الكامل، وحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ومواجهة التدخلات الأجنبية، إلى رفع رايات العدالة الاجتماعية والمساواة.
لكن هذه المسيرة المجبولة بالتضحيات، تعثرت تحت وطأة القمع الداخلي: الإعدامات، حملات الاعتقال والنفي إلى الصحارى. ومع ذلك، لم يخمد النشاط اليساري؛ بل لعب دوراً بارزاً في ثورة 14 تموز 1958، وفي احتجاجات السبعينات، رغم الانقسامات التي بدأت تشق صفوفه. ومع تغيَّر موازين القوى الإقليمية والدولية، ولا سيما بعد 2003، فقد الحزب واليسار العراقي، موقعهما المؤثر لصالح قوى الطائفية والمال السياسي. أصبح ذلك المجد القديم أشبه بصورة باهتة في إطار مغبر، يحنُّ إليها البعض، ويتسأل الجيل الجديد عن صلتها بالواقع الراهن.
بعد أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق، تبدو الحاجة ملحَّة إلى يسار جديد يخرج من عباءة الماضي، دون أن يتنكر لإرثه، ويتقدم بخطاب واقعي قادر على ملامسة هموم الناس اليومية. فقد تراجع التيار الذي حمل يوماً مشروع التحرر الاجتماعي والاقتصادي، تحت وطأة القمع، والانقسامات الداخلية وتبدّل المزاج العام وصعود الطائفية السياسية. ومنذ الثمانينات، احتل الإسلام السياسي، بشقيه الشيعي والسني، مساحة الحاضنة الاجتماعية التي اعتمد عليها اليسار بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة. كما رسمت التدخلات الإقليمية، من إيران وتركيا ودول الخليج، ملامح السياسة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي، مضَّيقة هامش المناورة أمام القوى اليسارية التي تفتقر إلى دعم خارجي مماثل.
إلى جانب ذلك، أدى الانفتاح الاقتصادي غير المنضبط إلى تدمير البنية الإنتاجية، وإضعاف النقابات والطبقة العاملة، وهي القاعدة التاريخية لليسار. كما لعب تغيّر المزاج الشعبي والفكري دوراً آخر في الأزمة، حيث انتشرت الأمية السياسية والفكرية، وهيمن الخطاب الطائفي والعشائري، وتقلَّصت مساحة الخطاب الطبقي. الجيل الجديد بات يميل إلى حركات احتجاجية أفقية، مثل انتفاضة تشرين 2019، ويركز على قضايا الحريات الفردية ومكافحة الفساد أكثر من الصراع الطبقي التقليدي. وفشل اليسار التقليدي في بناء حضور رقمي مؤثر يواكب سرعة التحولات.
اليوم، يقف اليسار العراقي على هامش سياسي معادٍ، بل هي أزمة ذاتية أيضاً. فالأيدولوجيا مازالت أسيرة نصوص من قرن مضى، والتنظيمات شبه جامدة، بينما تغيَّر العراق جذرياً: الطبقة العاملة تلاشت تحت وطأة اقتصاد السوق، النقابات أفرغت من مضمونها، والجيل الجديد يبحث عن حركات مرنة وبلا قيود بيروقراطية. ومع ثورة الإعلام الرقمي، لم تعد الاجتماعات السرية والمنشورات الورقية تصنع الرأي العام، بل منصات التواصل الاجتماعي والفيديو. وهنا خسر اليسار مساحة تأثيره.
ورغم ذلك، فإن الأزمة ليست قدراً محتوماً. يمكن لليسار أن يتجدد إذا راجع تجربته بجرأة، وقرأ الواقع بعين مفتوحة على المستقبل، وحرَّر خطابه من أسر الماضي، ومد يده للحركات المدنية والشبابية، وربط النضال من أجل العدالة الاجتماعية بقضايا الحريات الفردية وحقوق المرأة والبيئة ومكافحة الفساد.
في ظل الأزمة الوطنية الراهنة، حيث تتشابك الطائفية مع الفساد، وتتراجع قيم الدولة المدنية أمام سطوة المليشيات والخرافة، تبرز الحاجة إلى يسار عراقي جديد، أكثر وعياً بمتطلبات المرحلة وأقرب إلى الناس. ويتطلب ذلك معالجة على مستويين متوازيين:
1- فكري/ تنظيمي: صياغة برنامج عصري يتجاوز شعارات الحرب الباردة، ويرتبط مباشرة باحتجاجات العراقيين حول العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد والمساواة وحماية الدولة المدنية. مراجعة التجربة السابقة بشجاعة، والاعتراف بالأخطاء، مع دمج البعد الوطني بالبعد الاجتماعي ورفض الطائفية والتبعية.
2- عملي/ جماهيري: توحيد الصفوف وإنهاء الانقسامات التاريخية أو بناء جبهة عمل مشترك، وإفساح المجال أمام جيل شاب يمتلك مهارات رقمية وتنظيمية، ومنح المبادرة للتنظيمات المحلية. استعادة الصلة بالجمهور عبر التواجد الميداني والانخراط في قضايا العمال والطلبة والنساء والعاطلين، واستثمار المنصات الرقمية والبودكاست والفيديو القصير، مع خطاب شعبي مبسط يلامس مشاكل الناس.
مواجهة الطائفية والفساد تتطلب جبهة واسعة حتى مع المختلفين أيديولوجياً، ودعماً لحقوق المعلمين والأطباء والفلاحين لترسيخ العمل اليساري في بنية المجتمع، وتقديم بديل ثقافي عقلاني جذاب يواجه الفكر الخرافي والطائفي، ويستثمر الفنون والآداب كأدوات فعَّالة لتغيير المزاج.
العراق بحاجة إلى تيار يساري يعيد تركيز الصراع من الهويات الفرعية إلى قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية. ورغم أن الطريق طويل وشاق، فإن بناء هذا التيار ضرورة وطنية عاجلة.

في اليسار العراقي.. مجرد رأي