حسام الشلاه شيخ الخطاطين… ناثر الحروف على قماش الروح

حسام الشلاه شيخ الخطاطين… ناثر الحروف على قماش الروح

حين تُذكر الحلة، تتسرب من زوايا الذاكرة أسماء قاماتٍ وقفت بصلابة في وجه النسيان، وكتبت وجودها بحبرٍ من إبداع وأصالة. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم السيد حسام الشلاه، أو كما يحلو للوسط الثقافي والتربوي أن يلقبه: شيخ الخطاطين، ورائد الحرف العاشق لجماليات المعنى وموسيقى الشكل.

ولد السيد حسام في قلب الحلة، محلة الطاق، سنة 1942، وفي كنف أسرة آل الشلاه المعروفة بثقافتها ووجاهتها، تشكل وجدانه الأول بين المجالس الأدبية التي كانت تنعقد تحت ظلال النخيل، في فضاءٍ خصب بالكلمة والنقاش، حيث كان الفتى الصغير – ابن السبع سنوات – يرش الماء مع أقرانه ليبردوا الأرض، ثم يفرشون السجادات في انتظار حضور الأدباء والمثقفين، يستمع ويخزن في ذاكرته ملامح العالم.

كان الفن عند حسام الشلاه فطرة لا صناعة. فمنذ مقاعد الدراسة الابتدائية، خطّ أولى حروفه، لا كتلميذ يتهجى، بل كعاشق يرسم. تعلّم الخط والزخرفة والرسم، وراح قلمه ينساب كما تنساب الأنغام من وترٍ متقن الضرب. وتعلّقت روحه بالفن إلى الحد الذي قاده لتقديم أوراقه إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد، وهناك، امتُحن على يد الفنان الكبير جواد سليم، الذي أُعجب بموهبته وجعله أول المقبولين، لكن أوهام بعض الحاسدين حالت دون إكماله هذا الطريق، فكانت الأقدار ترسم له مسارًا آخر، لا يقل إشراقًا.

دخل دار المعلمين الابتدائية، وتخرج فيها عام 1961، لينطلق في رحلة تربوية امتدت أكثر من نصف قرن، لم تكن فيها السبورة مجرد أداة تدريس، بل كانت نافذة لغرس الجمال والإبداع في نفوس التلاميذ. تنقّل بين مدارس المدن والأرياف، معلّمًا وخطاطًا ومحاضرًا في دار المعلمين، ثم في كلية الفنون الجميلة، وأخيرًا مديرًا لمركز الأشغال اليدوية في بابل، قبل أن يُحال إلى التقاعد عام 1999، مخلِّفًا وراءه جيلاً من المحبين، وتاريخًا لا يُنسى.

لم يكن حسام الشلاه خطاطًا فحسب، بل كان وجهًا ثقافيًا واجتماعيًا جامعًا. حضوره لا يغيب عن الأمسيات الأدبية، مجالس العزاء، حفلات الزواج، المنتديات الثقافية. وكان محاضرًا دائمًا في كليات اللغة العربية، يحسِّن خطوط الطلاب، ويقيم الدورات المجانية لتعليم الخط، مؤمنًا بأن الجمال حقّ مشاع يجب أن يصل للجميع.

وبوصفه وطنيًّا صادق الانتماء، وقف دائمًا على مسافة من الأحزاب، فلم تشده الشعارات، بل شدّه الوطن نفسه، فأحب العراق وأهله، وسعى في خدمتهم دون أن يطلب جزاءً أو شكورًا. وكان رياضيًا متألقًا أيضًا، بطلًا لا يُهزم في كرة المنضدة لعقدٍ من الزمن، يضرب الكرة كما يضرب الحرف بدقة ومهارة.

من أبرز إنجازاته التي ما تزال شاهدة عليه، المساهمة في تأسيس “متحف الحلة المعاصر”، الذي جمع فيه مع ثلة من أبناء المدينة نوادر وتحفًا تمثل روح المدينة، وساهم بما له من مكانة وعلاقات في إثرائه بالكتب والمخطوطات، بل تبرع بمكتبته الشخصية حُبًّا بالحلة وتاريخها، داعيًا الآخرين للاقتداء به، حتى غدت المكتبة في المتحف مرجعًا يضم كنوزًا معرفية لا تقدر بثمن.

كما خطَّ أسماء الجوامع والمراقد الدينية في الحلة، وزخرفها بأنامله الذهبية، فكان الخط عنده عبادة، والزخرفة صلاة روحية. ومن أعماله الخفية التي لم تكن تطرق الأبواب، سعيه المتواصل لمساعدة الفقراء، بأمواله أو بما يجمعه من أهل الخير، رقيق القلب، نقي السريرة، يحنو على المحتاجين كما تحنو الأم على وليدها.

وقد رثاه أهل الحلة والأوساط الثقافية والتربوية، ونعتته وسائل الإعلام بما يليق بمقامه، حين توفي مساء السبت، 13 حزيران 2025، ووري الثرى في مقبرة العائلة بالنجف الأشرف، في وداع مؤثرٍ عبّر عن مكانته في قلوب من عرفوه.

في عيون النقاد

يرى أدباء الحلة ومثقفوها أن “السيد حسام الشلاه هو آخر جيل الخطاطين الذين عاشوا الخط كهوية ثقافية لا مجرد مهنة. كان خطه امتدادًا لروحه، ومحبته للناس تنساب مع كل نقطة حبر يسكبها”. وهو “جسرٌ بين الأجيال، أضاء الحرف وزيّن الحلة، وجعل من الكلمة لوحة ناطقة بالجمال والإنسانية”.

وكان “مجلس السيد الشلاه ظل منذ الستينات من القرن الماضي بيتًا مفتوحًا للثقافة، ولولاه لانقطعت صلات كثيرة بين مبدعي المدينة”. فيما عدّه الخطاطون “معلّمًا غير تقليدي، يمتلك لمسة فنية نادرة، لا تُدرّس في الأكاديميات، بل تُستمد من نقاء الروح وتجارب الحياة”.

لقد رحل شيخ الخطاطين، لكن أثره لا يُمحى. ترك للأجيال تراثًا من الحروف المضيئة، واللوحات الباذخة، والمواقف النبيلة. وسيرته تظل درسًا في الوفاء للجمال، للناس، وللوطن. وبين دفتي التاريخ، سيبقى اسمه محفورًا بحروف من نور، كما أراد له قلمه دائمًا.