تخرج عند السادسة صباحًا، تجهّز عدّتها، وحين تصحو المدينة لا يسبق رائحة الخبز الحار سوى ابتسامة هذه البائعة على الرصيف.
امرأة تعرف أن الشمس قد تتأخر أحيانًا، لكن الجوع لا يعرف التأجيل.
تمدّ صحنها الأبيض كأنه واحة صغيرة من الطمأنينة، وتسكب فيه السعادة: شريحة من القيمر، قطرة عسل، ورغيف خرج لتوّه من التنور، يلتقطه الزبون من يد الخبّاز.
وسرعان ما تبدأ المدينة بالامتلاء بوجوهها اليومية: عمّال البناء وموظفو الدوائر. تراقبهم بعين حنونة، يتملكها شعور بالزهو كأنهم أبناؤها. تلتقط ابتساماتهم الخفية، وتشعر بتعب أيديهم، فتدرك أن صحن القيمر هذا قد يكون دفئًا لروحهم قبل أن يكون طعامًا لمعدتهم. والجميع يتذكر قولها حين تودّع أحدهم: «اذهب راشدًا»، فيردّد بعضهم العبارة نفسها، إمّا مواكبةً لقولها أو محاولةً ان يقولها قبلها مبتسما.
والغريب أن سعر الصحن يرتفع وينخفض مثل الدولار، لكن كرمها ثابت لا يتبدّل. وحين يجادلها أحدهم حول تخفيض الثمن، تضحك بخفّة وتقول باللهجة الدارجة: «آني مو مصرف مركزي… آني بس بائعة قيمر».
من يمرّ بجانبها لا يدرك دائمًا أنها تمنح أكثر من طعام؛ إنها تهب لحظة إنسانية صغيرة، يستعيد بها القلب نبضه المنسيّ بين الأخبار الثقيلة والوجوه المرهقة. وربما هي آخر من يحفظ للمدينة توازن نفوسها.